سلطت الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة حالياً الضوء على أهمية الطائرات المسيّرة أو غير المأهولة "الدرونز"، والتي يتم برمجتها أو التحكم بها عن بُعد، نظراً لفاعليتها العسكرية والاستخبارية في أرض المعركة. ولا يعني ذلك أن هذا النوع من الطائرات لم يستخدم من قبل في هذا المجال، اذ بدأ استخدامها منذ عقود عديدة، إلا أن التطورات التقنية التي لحقت بها والتي انسجمت مع الثورة التكنولوجية الحالية، وزيادة توجه عدد من الدول من خارج نطاق الدول الغربية الكبرى لتصنيعها من جهة أخرى، وزيادة سعي الدول عموماً للحصول عليها من جهة ثالثة، يشير إلى تصاعد أهمية هذا النوع من الطائرات، الأمر الذي لا يعكس فقط أهميتها العسكرية والاستخبارية في ظل رواج طبيعة جديدة غير تقليدية للحروب، بدخول مجال السايبر والفضاء الإلكتروني والذكاء الصناعي، وإنما بات يعكس أيضاً أهمية سياسية ترتبط بشكل مباشر بمعادلات الصراع وتأمين وجود الحلفاء. وأدى تراجع الهيمنة الأميركية عموماً وتغير طبيعة الحروب بعد رواج الأشكال غير التقليدية لها، إلى تغيرات في معطيات الصراع ومعادلاته. وتكمن خطورة هذا النوع من السلاح في أنه يأتي في إطار عالم إلكتروني معقد واجتهادي بات خارجاً عن السيطرة المنظمة الرسمية، والذي يصعب تتبعه أو التنبؤ به، أو حتى إمكانية رسم سياسات إستراتيجية إلكترونية دفاعية حاسمة للتصدي له أو ردعه.
يعد هذا النوع من الطائرات مناسباً جداً في التجسس والوصول إلى المعلومات التي يصعب رصدها، خصوصاً في أماكن يكلف الوصول إليها ثمناً باهظاً على الصعيد البشري. كما تستخدم هذه الطائرات في استهداف أهداف محددة ودقيقة، يصعب الوصول اليها وتحديدها بالطرق التقليدية، سواء كان ذلك في ساحة المعركة أو في جبهات عدائية في إطار صراع غير مباشر، حيث من الصعب الجزم بهوية الجهة المعتدية في مثل هذه الحالات في ظل تعدد مصادرها والجهات التي تمتلكها، كما أنها لا تعد مكلفة على الصعيد المادي نظراً لرخص ثمنها مقارنة بالطائرات الحربية المأهولة أو الصواريخ البالستية. ويعد التصدي لهذا النوع من الطائرات قضية مكلفة ومعقدة، فأنظمة الدفاع الصاروخية، إن نجحت في التقاط هذه الطائرات، صواريخها مرتفعة الثمن إذا قورنت بثمن مثل هذا النوع من الطائرات. ويمكن لهذه الطائرات الهروب من الرادار، إما لصغر حجمها أو تعدد أشكالها في حالة وظيفة التجسس، أو لأن إرسالها يتم في أسراب، أو لانخفاض مستوى ارتفاعها عن الأرض، وكذلك لإمكانية إطلاقها من أي مكان، اذ يصعب وجود رادارات تغطي خط الحدود بأكمله، خصوصاً الطويل منها.
كان امتلاك هذا النوع من الطائرات حصراً مملوكاً للغرب. وبدأ ظهور هذه التقنية للطائرات بريطانياً وأميركياً، مطلع القرن الماضي على أعتاب الحرب العالمية الأولى، وبقي امتلاكها وتطورها محصوراً ضمن القوى العظمى الغربية، وبدأ الاتحاد السوفييتي بالاهتمام بهذا النوع من الطائرات في ثلاثينيات القرن الماضي. وتبقى إسرائيل الاستثناء من بين الدول العظمى التي حصلت على هذه النوع من الطائرات مبكراً، فاستخدمته أول مرة في حرب عام ١٩٧٣ ثم في حرب لبنان عام ١٩٨٢، وبات سلاحاً معتمداً يُستخدم بكثرة مطلع الألفية الجديدة، في حربها ضد الفلسطينيين، سواء ضمن عمليات التجسس المفتوحة عليهم أو من خلال جرائم الاغتيالات أيضاً. وتفرض القوى الغربية قيوداً صارمة على تصدير مثل هذه الطائرات، في حين باتت متاحة من قبل تركيا وإيران، التي لا تضع شروطاً لتصديرها للدول الأخرى. وتعد الصين اليوم مصنّعاً ومطوراً رئيسياً لهذا النوع من الطائرات، ومصدراً رئيسياً لها من بينها لدول عربية، ترفض الولايات المتحدة والدول الغربية بيعها هذا النوع من الطائرات. وبدأت الصين الاهتمام بهذا النوع من الصناعات مطلع العقد الماضي. وبدأت تركيا بتركيز اهتمامها على تصنيع هذا النوع من الطائرات في ظل رفض الولايات المتحدة وألمانيا بيعها لها، وفي ظل فرض عقوبات عسكرية عليها، فبدأت تركيا بتصنيع وتطوير هذا النوع من الطائرات، وخلال سنوات قليلة ماضية باتت رائدة في التصنيع والتصدير لها. كما تعد إيران إحدى دول الشرق الأوسط التي اهتمت اهتماماً كبيراً بتصنيع هذا النوع من الطائرات، مستفيدة في تصنيعها من تقنيات الطائرات الأميركية والإسرائيلية التي أسقطتها ضمن مجالها الجوي، وباتت اليوم أداة دفاعية وهجومية مهمة، ومصدراً مهماً لهذه الطائرات لجهات عديدة في المنطقة.
لا تختلف فكرة بناء هذا النوع من الطائرات كثيراً ما بين النوع الغربي الأكثر تقدماً في العالم والذي تمتلكه الولايات المتحدة والأقل منها تقدماً كالذي تمتلكه إيران. وتكمن أهم تلك الفروق في مستوى الارتفاع عن سطح الأرض، وحدود المساحة المقطوعة للطائرة عن جهة التحكم، وطول ساعات البقاء في الجو، ومقدار حمولة التفجير التي يمكن أن تحملها الطائرة. ومن المفيد معرفته أن طبيعة البيئة التي يستخدم في إطارها هذا النوع من الطائرات قد يكون ناجعاً أكثر في حال استخدام الأنواع الأقل تطوراً، أو تلك التي لا تعمل بوساطة الأقمار الصناعية، إذ قد يكون العمل عبر الأثير وتردداته، في حال المساحات المحدودة أكثر فائدة وأماناً. كما أنه من الجدير ملاحظته، أن هذا النوع من الطائرات قابل للتطور والابتكار وضمن إمكانيات محدودة بشكل كبير.
تحقق الدول التي تتحكم ببيع مثل هذه الطائرات مكاسب سياسية، اذ يجبر شراء الدول لهذه النوع من الطائرات الارتباط بالدول المصدرة، من حيث حاجتها للتدريب والحصول على قطع الغيار ومواكبة تطورات الأداء، التي تعد قضية أساسية ومستمرة، لذلك عادة ما تكون الدول التي تشتري هذا النوع من الطائرات حليفة أو صديقة أو تمتلك مصالح سياسية مشابهة للدول المصدرة. وهو ما يمكن ملاحظته على سبيل المثال من خلال ما أشيع مؤخراً من بيع إيران لطائراتها المسيّرة لروسيا خلال الحرب الدائرة حالياً. كما تمتلك جهات غير نظامية مقربة من إيران كالحوثيين في اليمن وجماعات عسكرية شيعية في العراق وحزب الله في لبنان الطائرات المسيّرة الإيرانية أيضاً. كما استخدمت الحكومة الليبية المقرّبة من تركيا لهذا النوع من الطائرات التركية الصنع، في معاركها مع قوات خليفة حفتر في ليبيا، واستُخدم أيضاً هذا النوع من الطائرات التركية من قبل القوات الأذربيجانية الحليفة للنظام التركي في حربها ضد القوات الأرمنية خلال جولة القتال في إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه عام ٢٠٢٠. وتستخدم إسرائيل الطائرات الأميركية المسيّرة، رغم أنها تعد أيضاً رائدة في تصنيع هذا النوع من الطائرات، في حربها ضد الشعب الفلسطيني الذي تحتل أرضه، فإسرائيل تحصل على الطائرات الأميركية رغم حظر الإرسال الذي تمارسه على دول أخرى، بما فيها تركيا.
ليست القدرات العسكرية وحدها من يحدد توازنات القوة في المنطقة اليوم، فالحرب غير التقليدية والتقنيات التكنولوجية المتطورة كالسايبر والدرونز، والقابلة للتطور المستمر وخارج النطاق الرسمي والمنظم، لها دور مهم في قلب التوازنات.