حين تبصر هذه الكلمات النور، من المفترض أن تكون عقدت في تل أبيب، بدعوة من صحيفة هآرتس وحركة السلام الآن، ندوة خاصة بعنوان "حين احتلت المناطق (أراضي 1967) إسرائيل"، بمشاركة صحافيين وحقوقيين وساسة، بينهم مندوب من فلسطينيي الداخل.
ليس من الصعب أن نستنتج من العنوان أن الهدف من الندوة هو التحذير من مخاطر الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي تضم حزب الليكود وحلفاءه من اليمين الصهيوني الديني وأحزاب اليهود الحريديم المتشدّدين دينيًا، من زاوية صبّ جام النقد على الاحتلال الإسرائيلي منذ 1967، باعتباره يسمّم الروح، والمناخ السياسي العام، ويفرض التراجع على ما كانت إسرائيل عليه قبل حدوثه.
ويتّسق هذا الهدف مع مقاربة أوساطٍ إسرائيليةٍ أخرى، تتبنّى هذا الطرح، وأعادت تكراره هذه الأيام على الخلفية نفسها، وتؤكّد فيه أنه على الرغم من أن احتلال 1967 قد عُـدّ، في حينه، بمثابة مؤشّر إلى قوة إسرائيل وجبروتها، فإنها طوال الأعوام الـ 55 التي مضت عليه، لم تفز بأي انتصار عسكريّ جليّ في ساحة القتال، ولا حتى ضد "مليشيات"، وأنه حين تعجز الدبابة والطائرة عن توفير الردّ على الأزمات المتراكمة، فإنّ الميل المسياني (الخلاصيّ) يشتط أكثر فأكثر.
ولئن كان هذا الطرح يقرّ بأن احتلال 1967 فتح المجال أمام تطرّف المشروع الصهيوني الاستيطاني، على المستويين، الجغرافي والديموغرافي، وتمثّل ذلك أساسًا في نشوء تياراتٍ استيطانيةٍ مغاليةٍ في التطرّف والنزعات الفاشية، لقيت رعاية رسمية من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، كما تمثّل في عمليات ضم زاحفة شملت مناطق واسعة من أراضي الضفة الغربية ومدينة القدس وهضبة الجولان، فإنه يتحاشى النظر إلى الصهيونية باعتبارها أيضًا حركة مسيانية عنصرية ووحشية إزاء كل من لا ينتمي إلى "الشعب المُختار". واتسقت مقاربتها مع المقاربة الدينية التوراتية القديمة التي ترى في أبناء الديانة اليهودية "شعبًا"، وتتبع معايير صارمة (هوية الأم) لضمان صلة الدم بـ "المجموعة القومية". كما أن الصهيونية استقرضت مصطلحات ومفاهيم من الدين اليهودي، وألبستها لبوسًا علمانيًا لتجعل منها جزءًا عضويًا من صيرورتها، إذ إن مصطلحاتٍ من قبيل "خلاص الشعب"، و"إنقاذ البلد"، هي مسيانية، استخدمها زعماء علمانيون في الظاهر. كما أن محاولة لإخفاء الطابع اليهودي الديني للصهيونية، جرت إبّان فترة الانتداب البريطاني، حيث لم يجر الحديث عن "دولةٍ يهودية"، وإنما عن "دولة عبرية"، ما أوجد وهمًا بنشوء قومية جديدة. وعلى الرغم من أنه في تلك الأعوام لم يجر التأكيد على العنصر الديني، إلا أنه كان قائمًا فعليًا، فالتوجهات التي تؤمن أن البلد (فلسطين) حكرٌ لليهود، وأن سكانه الأصلانيين هم "غرباء" و"آخرون" غير مهمين، تغلغلت في كل مستويات التفكير والعمل الصهيونيين. وبعد إقامة إسرائيل، تمّ تكريس هذه المفاهيم والمقاربات بصورة كاملة، وهو ما انعكس بدايةً في تطبيق "قوانين الدخول إلى إسرائيل" على مواليد البلد غير اليهود.
فضلًا عن هذا، تشير ندوة كهذه ربما إلى حقيقة أن مقولة "الصهيونية حركة كولونيالية" لا تزال أشبه بـ "تابو" في الخطاب الإسرائيلي العام، كما سبق لأستاذ الفلسفة اليهودية والتلمود في جامعة تل أبيب، يشاي روزين تسفي، أن نبّه قبل أعوام عدة، وذلك لأن السمة الكولونيالية ما انفكّت ملازمة للعقيدة الصهيونية، ولم تتحوّل إلى شيء ما من الماضي الذي انقضى. وقد أكّد أيضًا أنه في دولة تسنّ "قانون القومية" (2018)، وفيها أكثر من نصف مليون مستوطن في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، وتتواتر من جانبها مشاريع ترمي إلى تهويد منطقتي النقب والجليل، لا يمكن الكلام حول الكولونيالية الاستيطانية كما لو أنها أمرٌ ينتمي إلى الماضي. وفي ضوء ذلك، من المتوقع أن تظل هذه المقولة عرضةً للحجب والإنكار تحت طبقات سميكة من علم الاجتماع والتأريخ الرسمي الإسرائيلي، كما تحت وطأة الاعتقاد بأن أصل الوحشية الصهيونية منحصرٌ في احتلال أراضي 1967.
عن "العربي الجديد"