ونحن نطوي أحداثَ عامٍ مضى، بكلِّ ما فيه من وجعٍ وبُكى، لفت نظري ونظر الكثيرين من أهالي ونُخبِ قطاع غزة عددَ انطلاقات الفصائل التي تمَّ إحياؤها هذا العام 2022، حيث تعمَّد كلُّ فصيل أن يُظهر "ملكيته" للشارع الفلسطيني، وأن ساحة غزة بهذه الحشود "محتكرة" بأغلبيتها له وليست لأحدٍ سواه!! وكون أرضية "الكتيبة الخضراء" هي الأكبر مساحةً بين كلِّ الفضاءات المتاحة لإبراز ضخامة الحشود، ويمكن لكلِّ فصيل الادعاء بأنَّ الآلاف من منتسبيه وأنصاره قد وطئوا ساحتها، بل إنها هي وشوارعها الجانبية لم تستوعب زحوفهم الهادرة!!
لو كانت فصائلنا الفلسطينية في غير وضعية التشظي والانقسام، ولو كانت الشراكة السياسية والتوافق الوطني هما الظاهر والعنوان، لفرحنا بفخر للجميع، وكان للتباهي دلالة في نفوسنا ومكان، ولكن -للأسف- ونحن على هذا الحال البائس تحت الاحتلال والحصار، والمعاناة جراء ارتفاع نسب البطالة بين الشباب (60%)، واعتماد الغالبية (80%) على المساعدات الإنسانية من الوكالة الدولية (الأونروا)، هذا عدا الأزمات والخلافات والتوترات والمباهلات الكثيرة التي كرَّسها واقع "كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون"!!
في هذا العام المنصرم 2022، كان واضحاً أنَّ الكلَّ كان معنيَّاً أن تصل حشوده بعشرات الآلاف لساحة الكتيبة، كونها كانت فيما سبق مقصورة -غالباً- على احتفالية حركة حماس، وهي بما تمثله من اتساع كانت المؤشر و"مسطرة القياس" لمن يمتلك الغلبة الجماهيرية على ساحة قطاع غزة.
اليوم، وصل الكلُّ الفصائلي لهذه الساحة، وتبين أنه يملك هو الآخر من الكوادر والأنصار ما يملأ به كلَّ جوانبها، ولا داعي لأحدٍ بعد هذا العام أن يُعيِّر البعض الآخر.
بصراحة، لقد آن الأوان أن نناشد الجميع: كفى أيتها الفصائل.. ارحموا غزة من هذه الانطلاقات، ومن كان عنده فضل مالٍ فهناك من يتضور جوعاً وحاجة إليه!!
إن أسئلة الغلابة والمستضعفين من أهالي قطاع غزة وتساؤلاتهم تزحم بمشروعيتها مسامعنا: لماذا كل هذه الجلبة والمبالغة في مظاهر البذخ والتبجح بالكثرة كلما أطلَّت علينا انطلاقة فصيل.؟! وهل نحن حقيقة بحاجة لكلِّ هذه الزحوف التي يريد لها أصحابها إيصال رسالة للآخرين بأنهم الأكثر جمعاً..!!
أليس من الأجدى ونحن ما زلنا نعاني من الاحتلال والتشرذم والحصار أن نتخفف من أشكال التباهي والمباهلة والزهو باحتفالات تُشعرك بغياب الحكمة وأهلية أصحاب القرار؟!
نعم؛ هذه الأسئلة وغيرها تجري على ألسنة الكثيرين من النخب والمفكرين، ولا يبدو أن هناك أحداً من زعماء الفصائل من يملك إجابة مقنعة عليها. باختصار.. إنَّ تفشي ظاهرة "الانطلاقات" الفصائلية غدت حالة مزعجة لاستعراض "الأنا" الحزبية على الآخر، باعتبار أن "حشود" الانطلاقة هي بمثابة "وثيقة ادعاء" لحضوره النضالي، وعدم تجاهله في عملية اتخاذ القرار.
يا قومنا.. يا فصائلنا.. إنَّ المطلوب تضحيات وليس زفة انطلاقات، فقد غطت حشود تلك الانطلاقات على معظم مناسباتنا الوطنية، كما طمست على الكثير من ذكريات كوارثنا ومآسينا الفلسطينية الكبرى، والتي غدت تمر فلا يتوقف عندها أحد ولا يلتفت لها فصيل؛ لأن الميزانيات يتم اعتمادها لليالي أعرس الفصائل والتجهيزات التي تتطلبها "زفة العرس" يوم الانطلاقة "المجيدة"!!
لقد ناشدنا إخواننا في فصائل العمل الوطني والإسلامي أن يرحمونا ويرحموا قطاعنا المثخن بأوجاعه، إذ "يكفينا ما فينا".
لقد قُلنا أكثر من مرة، ونكررها من حين لحين: ارحموا غزة، وقدِّموا هذه الأموال التي تبدو ترفاً للبلديات، التي تشكو ضيق ذات اليد، وتعاني من عجز الإمكانيات وقفر الميزانيات، وتتحمل لعنات الناس الذين تحاصرهم أكوام النفايات والمجاري وتغرق شوارعهم بمياه الأمطار.
إنَّ هناك الكثير مما نطلب لأهل غزة منه الرحمة، فنرجوكم يا كلَّ الفصائل أن ترحموا غزة وأهلها من جلجلة "ميكروفونات" الحشد للانطلاقة والنفير لساحات "شوفيني يا بنت خال..."، حيث تتعطل الحياة ليظهر الفصيل في "يوم مشهود" يباهي الآخرين بجمعه، الذي يحجب عين الشمس براياته وبالوناته وفرقعات ألعابه النارية.
ارحموا غزة وعائلاتها المكلومة بشهدائها وجرحاها وآلاف المعتقلين والمعاقين من أبنائها.
ارحموا غزة التي أنهكت البطالة جيوب أهلها، وعشرات الآلاف من الخريجين يتسكعون في شوارعها لا يجدون فرصة عمل تحفظ لهم كرامتهم وتمنح مستقبلهم بصيص أمل.
ارحموا غزة التي لا تنقطع شكوى مستشفياتها من نقص الدواء، وتعطل الأجهزة والمعدات، وقلة المختصين وأصحاب الخبرات.
ارحموا غزة.. وتذكروا أن من منحوكم ثقتهم وأدلوا بأصواتهم بكم كانت مقابل أن تحفظوا لهم ثغور الوطن وحدوده، وأن تجمعوا الشمل، وأن تكونوا عند حسن ظنهم بكم، فلا تحرفوا البوصلة وسددوا وقاربوا.
ارحمونا.. وارحموا شباب غزة من صنميّة الانطلاقات والرايات والأهازيج الفصائلية؛ لأن هناك من غدا يتعبّدها، ويطلب الموت على مذبحها...!!
وأخيراً.. يا أهل الفصائل.. ارحمونا وارحموا غزة من عبثية الانطلاقات، فإن "من لا يرحم الناس لا يُرحم".
نحن لا ننكر على الفصائل أن تحتفل بانطلاقاتها، ولكنَّ كلَّ شيءٍ بقدر، فنحن وضعيتنا الاجتماعية أشبه ببيت عزاء، وهذا يتطلب أن نُراعي مشاعر شعبنا المحاصر؛ البائس الفقير، الذي لا يجد بعض أهله خشاش الأرض لإسكات جوعة أحشائه أو توفير سبل حياة كريمة تمنع أبناءه من ركوب قوارب الموت والهجرة بعيداً عن الوطن.
ارحموا غزة.. وحرروا سماءها من تلك الأعلام التي غطّت فضائها وعكّرت زُرقتها، أعيدوا لجدران غزة صدقها وطهارتها، فقد ملأتها الشعارات المفرطة والادعاءات الكاذبة بعد أن كانت لوحات شرف تحكي بطولات المقاومة ومآثر الشهداء.. كفى تهريجاً واستغفالاً لهذا الشعب، ومن أراد أن يُظهر عدده وعدته فهذه هي الحدود وأرض الجدود، وها هم جنود الاحتلال منا جميعاً تقف على مرمى حجر.
أتمنى أن يكون يوم انطلاقة الفصيل؛ أيُّ فصيل، يوم عمل من أجل الوطن والقضية.. يا حبذا لو قام كلُّ فصيل بحملة للنظافة العامة في ذلك اليوم، وخرجت كوادره وقياداته تجوب الشوارع بمعدات النظافة لخلق مشهدٍ للوطن خالٍ من القمامة ومسطحات المياه العائمة.
أتمنى -ونحن في مطلع عامٍ جديد- أن تكون الانطلاقات القادمة لفصائلنا العشرين مناسبة ليس للهتاف والشعارات والتلويح بالرايات الحزبية، بل يوم عمل وطني تتشابك فيه الأيادي، ونعيش معهم في مشهد يوم جميل للوطن، ونقول: "بوركت هذه السواعد، وبوركت معها هذه الرايات".
وختاماً؛ أقول لإخوتي في فتح وحماس أنتم الأوعى سياسياً والأوسع انتشاراً على ساحة العمل الوطني، فعليكما تقع المسئولية في توجيه طاقات شعبنا وشبابنا؛ فالمعركة مع المحتل لم تنتهِ بعد، ونحن ما نزال في أول طريق المواجهة مع الصهيونية الدينية واليمين المتطرف، مع بن غفير ونتانياهو، وهناك ينتظرنا الكثير من أشكال الحشد والتضحية والرباط.
نأمل أن تكون انطلاقات الفصائل القادمة تحركات سلمية باتجاه الحدود مع المحتل الغاصب مطالبة بحق العودة في سياق ما نتحدث عنه من أفعال المقاومة الشعبية.
إنَّ معركتنا الكبرى ستدور رحاها في القدس وأكنافها القريبة في الخليل ونابلس وجنين، وهذا ما يتطلب منَّا أيضاً في قطاع غزة التعبئة والحشد، لتتكامل الحشود، وتتعاظم عطايا الجهود، ويتحقق لشعبنا نصره الموعود في يومه المشهود.