اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل أيام، قرارًا يتعلق بالممارسات الإسرائيلية التي تمس حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، حدث هذا على الرغم من كل الضغوطات السياسية التي مارستها إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، وبعض أصدقائها في العالم، فإن أكثر من نصف أعضاء الجمعية العامة صوّتوا لصالح هذا القرار، بوجود معارضة من بعض الدول، وزيادة ملحوظة في عدد الدول التي امتنعت عن التصويت.
تطلب الجمعية العامة بموجب هذا القرار من محكمة العدل الدولية تقديم رأيٍ استشاريٍ قانونيٍ بشأن الآثار القانونية الناجمة عن انتهاك إسرائيل المتواصل لحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، واحتلالها طويل الأمد للأراضي الفلسطينية، بما في ذلك تدابيرها الرامية إلى تغيير ديموغرافيا مدينة القدس، إلى جانب كيفية تأثير سياسات إسرائيل وممارساتها على الوضع القانوني للاحتلال، والآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة.
يعكس هذا التصويت وقوف المجتمع الدولي إلى جانب الحق الفلسطيني، وتأكيد دول العالم على أن السياسات والممارسات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، مدانة من قبل المجتمع الدولي وبموجب القانون الدولي، وهو أمرٌ أكدته عشرات القرارات السابقة للجمعية العامة للأمم المتحدة، دون أن يجد قرارٌ واحدٌ من قراراتها طريقه إلى التنفيذ من طرف دولة الاحتلال؛ التي اعتبرت نفسها على الدوام فوق القانون الدولي وفوق أي قراراتٍ أمميةٍ تحول بينها وبين احتلالها أراضي الغير بالقوة.
استوقف التصويت الأوروبي على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الكثيرين، بمن فيهم الشعوب الأوروبية نفسها، فقد عكفت دول الاتحاد الأوروبي عل الدوام على إصدار التصريحات والمواقف الفردية والجماعية، التي يدعو جميعها إلى تنفيذ قرارات الأمم المتحدة فيما يخص الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وإلى ضرورة وقف إجراءات إسرائيل أحادية الجانب، بما فيها الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، وكل الأعمال التي من شأنها تقويض حل الدولتين، الذي يراه المجتمع الدولي السبيل الوحيد إلى تحقيق الأمن والسلام والاستقرار في هذه المنطقة من العالم، وفي ذات الوقت، واصلت إسرائيل صم أذنيها عن التعاطي مع هذا الخيار، ونجحت في جعله مستحيل التنفيذ، بفعل ممارساتها على الأرض، وذهبت أبعد من ذلك بتشكيل حكوماتٍ يمينيةٍ ذات طابعٍ فاشيٍ تعتمد التوسع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة باعتباره خطًا ثابتًا في السياسة الإسرائيلية، وسبيلًا وحيدًا لبقاء الحكومات واستمرار عملها في دولة الاحتلال.
ملأت أوروبا الدنيا صخبًا عندما اندلع النزاع الروسي – الأوكراني، وأقامت الدنيا ولم تقعدها لأن روسيا استولت على بعض الأراضي الأوكرانية، وبدأت مشروعات دعم وإغاثة الأوكرانيين، وتزود جيشهم بالسلاح، واتخاذ قرارات العقوبات بحق روسيا، وتحرض العالم كله على إدانة السلوك الروسي، وفتحت في وسائل إعلامها مصاطب للبكاء على ضحايا النزاع الذي غادروا بلداتهم نتيجة استمرار المعارك، واستقبلت قادة أوكرانيا استقبالًا يليق بالعظماء من زعماء حركة التحرر العالمي، كل هذا حدث بسبب أن بشرة الأوكرانيين تشبه بشرة الأوروبيين، وبسبب أن أوكرانيا جزء من أوروبا الموسعة في المستقبل، ولكن عندما تعلق الأمر بحقوق أصحاب البشرة الملونة ومنهم الفلسطينيين، ظهر الوجه الآخر المخادع والمنافق والمتقلب، وبدأت التعابير تتناول الصعوبات المتعلقة بتنفيذ القرار الأممي، بالرغم من أن دولة الاحتلال الإسرائيلي داست بأحذية جنودها على كل القيم الإنسانية في سلوكها اليومي مع الإنسان الفلسطيني الذي لم يرتكب جريمةً سوى أنه يطالب بنيل حقوقه غير القابلة للتصرف.
تدعم أوروبا حل الدولتين، وتقدم الدعم المباشر لموازنة السلطة الفلسطينية، وتعلن رفضها لممارسات الاحتلال، وفي ذات الوقت تحاول تعطيل قرارٍ يتعلق بفتوى قانونية تتناول سلوكيات الاحتلال، وهو تناقضٌ يستوجب على الرسمية الفلسطينية، ممثلة بوزارة الخارجية، أن تستدعي سفراء دول الاتحاد الأوروبي لديها والاستفسار منهم عن سبب رفض القرار الأممي أو الامتناع عن التصويت عليه، وهو أقل ما يمكن عمله فلسطينيًا، وربما اقتضى الأمر إجراءاتٍ إضافيةٍ لو كانت السلطة قادرة على الاكتفاء الذاتي دون الحاجة إلى المال الأوروبي الشهري، لأن هذا التراجع في الموقف الأوروبي من شأنه أن يفتح شهية حكومة الرباعي (نتنياهو، سموتريتش، بن غفير، وهادرعي) على مواصلة مسارهم في قتل حل الدولتين وجعل تنفيذه مستحيلًا من ناحيةٍ عملية، من خلال مواصلة الاستيطان والتوسع فيه، على حساب الحق الفلسطيني الأصيل في إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.
ولو كان الوضع العربي في حالٍ أفضل، لربما اقتضى الأمر إجراءاتٍ عربيةٍ من شأنها أن تردع مواقف الدول التي انتكست لجهة دعمها لمنظومة حقوق الإنسان بعد أن مارست تصويتًا يجعل كل مواقفها السياسية المعلنة موضع شكٍ وريبةٍ وتساؤلٍ يتعلق بالمصداقية والجدية والموضوعية والحياد، وهذه بلدان لا يمكن لها أن تغير مسارها إلا إذا شعرت أو تأكدت أن مصالحها ستكون في خطرٍ محدقٍ إن لم تبدّل سياستها، لأن المصالح، والمصالح وحدها، هي الحاكم الوحيد للفعل والسلوك السياسي في بلدانٍ لا تعرف حقوق ا"لإنسان والمواثيق الدولية إلا وفقًا لاحتياجاتها فقط.