تمخض الجبل الحر فولد فارساً مقداماً، فولد القائد الوطني والمناضل عميد الأسرى الفلسطينيين كريم يونس ابن بلدة عارة في مناطق الـ48، مودعاً بعد 40 عاماً خلف القضبان أبطال مسيرة نضالية خاض خلالها معارك نضالية عديدة، أبرزها معارك الأمعاء الخاوية في مواجهة عتمة السجن وجبروت السجان.
لم يعش القائد الوطني الأسير المحرر كريم يونس في بلدته عارة في أراضي الـ48 عنفوان شبابه، حيث اعتقل ولم يكمل عامه الثاني والعشرين في السادس من كانون ثاني (يناير) عام 1983 ودون أن يكمل دراسته الجامعية على مقاعد الدراسة إلى أن قضى حلمه بدراسة البكالوريوس والماجستير في سجون الاحتلال خلال سنوات اعتقاله الأربعين ليتحرر رجلاً ابن الاثنين والستين عاماً.
في تلك السنون العجاف، لم يستطع القائد كريم يونس توديع والده الذي توفي وهو يقضي عامه الثلاثين في سجون الاحتلال، ولم يستطع تشييع والدته ومواراتها الثرى التي انتظرته ٣٩ عاماً ورحلت قبل عدة أشهر من تحرره. انتظرت أم كريم يونس ابنها 39 عاماً ولكنها رحلت قبل أن يكمل ابنها عامه الأربعين في الأسر، كما انتظرت أم الأسير الشهيد أنيس دولة عودة جثمان ابنها لتشيعه في مواكب الأبطال وتزوره في قبره، ولكن الموت باغتها قبل أن تكمل حلمها بتشييع ودفن جثمانه. إنها أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها، إنها أجمل الأمهات التي عينها لا تنام، تظل تراقب نجماً يحوم على ابنها في الظلام.
رغم سنين الاعتقال الطويل إلا أن الاحتلال أراد تنغيص فرحة الإفراج عن الأسير كريم يونس، باقتحام سجنه ليلاً بشكل مفاجئ ونقله من السجن إلى المركبة وتركه عند محطة الباصات في منطقة «رعنانا» بأراضي الـ48 دون إبلاغ أحد من عائلته، والطلب منه التوجه إلى بلدة عارة، وباقتحام منزله قبل يوم من الإفراج عنه ومصادرة الأعلام الفلسطينية ومنعهم من رفعها وتشغيل الأغاني الوطنية الفلسطينية، ورفض تنظيم أي استقبال له في بلدته حتى في صالة مغلقة.
ولم يكتف الاحتلال من سنين اعتقاله، حتى بات مسؤولو الاحتلال يهددون بسحب الجنسية منه وإبعاده عن أهله وبلدته عارة، والذي رد الأسير كريم يونس على تلك التهديدات بأنها «لا تخيفه» والأسرى لا يرهبهم المعتوه ايتمار بن غفير، واصفاً الإفراج عنه بالقول «اللحظات التي أعيشها لا توصف، وقد تكون أحاسيسي «تكلست» لدرجة أنني لا أعرف كيف أعبر عنها، وقد خرجت لعالم يختلف عن عالمي»، مضيفاً: «كان لدي استعداد أن أقدم 40 عامًا أخرى من عمري فداءً لشعبي، وكل الأسرى لديهم القوة والعطاء لأن يقدموا أربعين وخمسين عامًا من أجل حرية شعبهم».
القائد الوطني كريم يونس غادر زنزانته والذي كان يتمنى انتزاع حريته برفقةِ اخوة الدّرب ورفاق النّضال، متخيلًا استقبال يعبر عن نصرٍ وانجازٍ كبيرين، لكنه يحاول أن يتجنب آلام الفراق ومعاناة لحظات الوداع لإخوةٍ ظن أنه سيكمل العمرَ بصحبتهم، وهم حتمًا ثوابتٌ في حياته كالجبال، غادر ولكن روحه باقيةٌ مع القابضينَ على الجمر المحافظين على جذوة النّضال الفلسطينيّ برمته، مع الذين لم ولن ينكسروا، لكن سنواتِ أعمارهم تنزلق من تحتهم ومن فوقهم، ومن أمامهم، ومن خلفهم، وهم لا زالوا يطمحون بأن يروا شمس الحرّيّة لما تبقى من أعمارهم، وقبل أن تصاب رغبتهم بالحياة بالتكلفِ والإنحدار .
المناضل كريم يونس ترك زنزانته؛ والأفكار تتزاحم، وتتراقص على عتبة ذهنه وتشوشُ عقله محتارًا على غير عادته إلى متى يستطيعُ الأسير أن يحمل جثته على ظهره، ويتابع حياته والموت يمشي معه، وكيف لهذه المعاناة، والموت البطيء أن يبقى قدرهُ إلى أمدٍ لا ينتهي، في ظل مستقبلٍ مجهول، وأفق مسدود، وأمل مفقود وقلقٌ يزداد مما نشاهدُ، ونرى من تخاذلٍ، وعدم اكتراث أمام استكلاب عصاباتٍ تملك دولة، توحشت، واستقوت بخذلان العالم، على شعب أعزل، حياته تُنهش كل يوم دون أن يشعر أنّ جروحه قد لا تندمل، وأن لا أمل له بحياةٍ هادئة، ومستقرة، ومع ذلك بقي ندًا، وقادرًا على الاستمرار .
ترك القائد كريم يونس زنزانته، مؤكدًا «أنّنا كنّا ولا زلنّا فخورونَ بأهلنا، وبأبناء شعبنا أينما كانوا في الوطن والشّتات، الذين احتضنونا، واحتضنوا قضيتنا على مر كل تلك السنين، وكانوا أوفياء لقضيتنا، ولقضية شعبنا، الأمر الذي يبعثُ فينا دائما أملاً متجددًا، ويقينًا راسخًا بعدالة قضيتنا، وصدق انتماءنا، وجدوى وجوهرِ نضالنا».
ترك الأسير المحرر كريم زنزانته، والرّهبة تجتاحه باقتراب عالم لا يشبه عالمه، وجيل لا يشبه جيله، جيل من الشباب الناشط الذين يتصدرون المشهد في السّنوات الأخيرة، جيل من الواضح أنهم أقوى وأجرأ، وأشجع، والأجدر لاستلام الراية، كيف لا وهم المطلعون على الحكاية، والحافظون لكل الرواية، والحريصون على تنفيذ الوصايا، وصايا شعبهم المشتت المشرد، بانتزاع حقه بالعودة، وتقرير المصير، فطوبى لهذا الجيل الصاعد، برغم أجواء التهافت .
هنيئاً للأسير والأيقونة النضالية كريم يونس الذي عانق الحرية منتصراً بعد سنوات القهر والوجع والألم في سجون الاحتلال وزنازينه، العائد إلى بلدته عارة، لينشد مع أبناء شعبه في كل مكان «نشيد بلادي نشيد الفدائي…..نشيد العودة والتّحرير»، وهنيئاً للحركة الوطنية الأسيرة، ونقول لهم إن «حريتهم باتت قريبة».