فقط بعد أيام من فوز لولا دي سيلفا في انتخابات الرئاسة بالبرازيل واستلامه لمهامه، حاولت القوى اليمينية الفاشية هنالك الانقلاب على نتائج الانتخابات الرئاسية الديمقراطية من خلال اثارة الفوضى واعمال التخريب واقتحام مراكز المؤسسات الرسمية بالعاصمة يوم أمس.
بفوز المرشح اليساري لولا دي سيلفا يكون قد توج مسيرة فوز وصعود اليسار إلى سدة الحكم في دول امريكيا اللاتينية مرة أخرى ، وذلك بعد فوزه على منافسة اليميني الرئيس السابق بولسونارو الذي يعتبر احد الأقطاب الداعمة بامريكيا اللاتينية وبالمحافل الاممية لسياسات الولايات المتحدة والمحافظين الجدد كما ايضا الحركة الصهيونية المسيحية العالمية التي ينتمي اليها والتي وفرت الدعم له في معركته الانتخابية ، وهو ما يمثله الآن حجيجه السياسي هذه الأيام إلى الولايات المتحدة التي اتت به رئيسا بعد انقلاب عام ٢٠١٦ ضد نتائج الانتخابات الرئاسية الديمقراطية فيها ، وهي ما تحاول فعله الآن مرة أخرى بعد دعمها الانقلاب على الدستور والرئيس اليساري المنتخب في البيرو الشهر الماضي .
ويعتبر اليساري التقدمي الرئيس لولا دي سيلفا من اقرب الزعماء تاييداً ومناصرة لمسيرة كفاح شعبنا ضد الأحتلال وهو موقف اكد عليه مجدداً في حفل تنصيبه الذي جرى في اول ايام العام الجديد وبحضور رسمي دولي بما فيه فلسطيني . كما واكد على مساندته لكل قضايا المستضعفين بالأرض والحركات الثورية المناهضة لسياسة الهيمنة المتوحشة للولايات المتحدة التي لم تدخر جهدا خلال العقود الماضية في محاولاتها الانقلابية بشتى الوسائل للاطاحة بالأنظمة التقدمية واليسارية بعدد من دول القارة اللاتينية ، كما فعلت في غيرها من دول العالم أيضا عبر العقود الماضية .
فرغم أنه لم يَمر من عُمر الولايات المتحدة الأمريكية غير حوالي 250 سنة فقط الا أنها قد قضت 93% من عمرها بما يعني 222 سنة في الحروب المختلفة على الدول الأخرى وأحتلالها في كافة أنحاء العالم أو إثارة الانقلابات فيها . أكثر من 90 حربا و عدوانا وانقلابا معظمها تعتبر جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
هذا إضافة إلى ممارستها سياسة الحصار والعقوبات الاقتصادية على دول لاتينية أخرى لمجرد خروجها من عباءة التبعية للولايات المتحدة أو تحدي سياساتها ، كما يجري الآن بحق دول أخرى حول العالم من خلال الناتو وبتواطئ من الاتحاد الأوروبي الذي تعمل حكومات دوله بسياسات تناقض مصالح شعوبها لإرضاء الولايات المتحدة خاصة فيما يتعلق بافتعال الازمة الأوكرانية ومحاولات الضرر في مصالح الأمن القومي لروسيا والصين وتمدد علاقاتهم الدولية .
وتُعد عودة اليسار بأمريكيا اللاتينية دَفعة قوية لقضايا الشعوب وعلى رأسها قضية كفاح شعبنا الفلسطيني . فقد كانت "إسرائيل" تراهن على حكومات اليمين لنقل سفارات دولها إلى القدس وتعمل عن قرب معها في قضايا مختلفة ايضا لها علاقة باضطهاد شعوبها .
كما ان حكومات اليسار في أمريكا اللاتينية تتعاون أيضًا مع بلدان جنوب العالم، في إطار مجموعة الـ ٧٧ + الصين ، والتي أصبحت الآن تضم ١٣٤ بلدًا والتي كانت قد اختارت فلسطين رئيسا للمجموعة سابقا ومن ثم كوبا على هامش اجتماع الأمم المتحدة الاخير ، مما يعزز دور أمريكا اللاتينية في العالم.
وبالتالي فإن المد اليساري الجديد في أمريكا اللاتينية، جنبًا إلى جنب مع جميع دول العالم النامية تقريبًا ، ستتاح له الفرصة لإسماع صوته السياسي المتعدد الأطراف الذي سيؤثر على التوازنات العالمية بشأن القضية الفلسطينية.
وهو سيكون مناهض للهيمنة وإظهار بدائلها الاجتماعية خلال فترة الركود والأزمات القادمة في الدول الغربية، إضافة إلى سياسات تتعلق بالبيئة والمناخ خاصة بموضوع الحفاظ على غابات الامازون والأرض ، وتلك هي احدى اهم التحديات الكبيرة الذي يجب أن نفهم من خلالها إعادة انتخاب لولا كرئيس للبرازيل والتي تشكل اكثر من ثلث التعداد السكاني للقارة اللاتينية ، بالرغم من تحديات داخلية ستفرضها عليه قوى اليمين الفاشي والرئيس السابق الذي ما زال يحوز على أكثر مقاعد مجلس الشيوخ .
فخلال فترتي ولايته ٢٠٠٣ حتى ٢٠١٠ حرص الرئيس لولا دي سيلفا على الدفاع عن حق تقرير المصير لشعبنا الفلسطيني وعن حقه بالدفاع عن نفسه و إقامة دولتنا المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية على اساس مبداء حل الدولتين وفق حدود ١٩٦٧ ، كما واتخذ الرئيس لولا موقفاً يطالب بمشاركة ومسوؤلية أكبر من المجتمع الدولي والأمم المتحدة على وجه الخصوص في انهاء الأحتلال ووقف الانتهاكات المستمرة لحقوق شعبنا الفلسطيني ، كما واعترف بدولة فلسطين قبل نهاية ولايته انذاك عام ٢٠١٠ ، وبات يتوشح بالكوفية الفلسطينية في جولاته الانتخابية خلال الأشهر الماضية ، مقابل توشح زوجة منافسه اليميني بولسونارو بالعلم الإسرائيلي.
أن ما نشهده اليوم بل ومنذ سنوات يشكل تعابير الموجة الثانية لانتصارات اليسار في أمريكيا اللاتينية والتي ابتداءات سابقا وفي ظلال الاستعمار المنهار في كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا , حيث شكل اليسار اللاتيني فيها المحور الأساس لحركات التحرر التي اعتمدت اسلوب حرب العصابات والمقاومة الشعبية المسلحة بالعديد من الدول في تلك القارة لتحقق بذلك لاحقا المفاوضات السياسية وتحصد انتصارات لحركاتها الثورية اليسارية ضد الأستعمار والتي قاد بعضها القائد تشي جيفارا الذي اصبح أيقونة لدى كافة الحركات التحررية والثورية بالعالم .
كما وشهدت تلك الحركات تواجد عدد من المناضلين اليساريين الفلسطينين أهمية ودورا بارزا في توجيه تلك الحركات وموجات انتصاراتها اللاحقة ، حيث شغل شفيق حنضل مثلا الذي تعود اصوله إلى مدينة بيت لحم موقع سكرتير عام الحزب الشيوعي وجبهة فيرماندو مارتي للتحرير في السلفادور كما وغيره اخرين ايضا ، كما ولعب عدد من رجال الكنيسة الكاثوليكية في تلك الدول دورا ثوريا الى جانب اليسار في مناهضة الاستعمار والأنظمة العسكرية الفاشية ، في ما بات يسمى لاحقا بلاهوت التحرر .
لقد ساد الاعتقاد سابقا بأن اليسار في أميركا اللاتينية مع حلول عام ٢٠١٥ قد بلغ ذروته عندما نجح شبح اليمين بالتعاون مع العسكر بإشراف وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالاطاحة به في عدد من الدول انذاك بدعم من الولايات المتحدة ومافيا المال والمخدرات وحتى بتعاون مع الحركة الصهيونية المسيحية والافنجيلين الذين امتدوا من الولايات المتحدة إلى دول أخرى.
وبذلك بداء يظهر نموذج من اليسار التقدمي الجديد منذ ٢٠١٩ بتقديم برامج مناقضة للسياسات النيوليبرالية المتوحشة التي دمرت بلدانهم بالتعاون مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذي تعمل الولايات المتحدة على توجيه سياساته .
فبدأ هذا اليسار الذي رفع شعارات التضامن بين الشعوب والعدالة الاجتماعية والسلم الدولي وتعميق الديمقراطيات وتعزيزها ومحاربة الفقر والتوزيع العادل للثروات ، إضافة الى مواجهة كل أنواع الاضطهاد السياسي والتأكيد على مبداء حق تقرير مصير الشعوب إضافة إلى قضايا المرأة والبيئة والمناخ . وهو يسار مُبدع غير منغلق التفكير وليس مغلف بقوالب جاهزة ، في تحقيق انتصارات نشهدها الآن.
وتزامن تبلور هذا الفكر اليساري التقدّمي مع الصعود الجديد لليسار الذي عاود الظهور في المكسيك، تبعتها الأرجنتين وتتالت انتصارات اليسار في دول مثل بوليفيا وفي البيرو وهندوراس وفي تشيلي ومؤخرا في كولومبيا، واستمر هذا المد التقدّمي اليساري فشهد عودة لولا دا سيلفا إلى الحكم في البرازيل .
هذه الرؤية المتجددة لليسار جعلت شعوب أميركا اللاتينية يميلون تجاه المرشحين اليساريين هؤلاء ، وأمام هذا اليسار التقدمي الذي ممكن ايضا وصفه بالجديد كما في فرنسا حيث نجح بجمع وحدة اطياف اليسار هنالك وحقق نجاحا كبيرا بالانتخابات الأخيرة كما وبالبرتغال وبعض دول اوروبا الغربية التي حققت فيها نجاحاته فرصة تاريخية لتأكيد مدى صوابية أطروحاته ومصداقية شعاراته من التقرب إلى مكونات شعوبه المختلفة ، بالرغم من ضرورات استكمال وحدة اليسار في عدد من الدول الاوروبية .
لقد كان موضوع الحصار الامريكي المفروض مثار ندوة شاركت بها الى جانب اخرين من كوبا وفنزويلا عقدت في جامعة اثينا قبل شهر ، حيث اجمع المتحدثين على اهمية أن يؤدّي هذا الانعطاف اليساري بموجته الثانية الآن في اميركا اللاتينية إلى ما قد يخفف الضغط على دول يسارية اخرى مثل كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا التي تتعرض للحصار الامريكي ، والتي كانت ، والى
تغييرات في السياسات المحلية في دولها تعود بتطوير دور القارة اللاتينية كقوة اقليمية ولاعب اساس بالسياسة الدولية ، والعمل ضمن التشكيلات والتكتلات الدولية القائمة مثل البريكس ومجموعة العشرين ومنظمة شنغهاي للتعاون وغيرها والتي تضم اساسا روسيا والصين والبرازيل وغيرها من الدول الاسيوية .
ان نجاح هذه الدول في عملية التحدي سيبعث لا محالة ديناماكية جديدة تحرك الخطوط للتقدم نحو نموذج عالمي بديل ونحو نظام دولي متعدد الاقطاب ، ما أحوج العالم وشعوبه اليوم إليه ينهي احادية القطب الواحد وهيمنته البشعة ، وهو أمر يجب أن يعود حينها باثر إيجابي على قضية تحرر شعبنا الفلسطينى من الاحتلال واستقلاله الوطني كما على قضايا شعوب العالم المضطهدة ، وعلى المساهمة بعزل سياسات دولة الاحتلال الأستعماري .
ورغم ان اليسار كمنهج فكري سياسي وأجتماعي أقتصادي قد حظي بانتشار وتأييد في اوساط مجتمعاتنا العربية ومنها في فلسطين منذ ثلاثينات القرن الماضي ، فان نجاحات اليسار اللاتيني يجب أن تدفع اليسار العربي الى فهم التجربة الجديدة والنظر الى واقع مجتماعاتنا العربية التي باتت احزاب وقوى اليسار والفئات المستقله تنظيميا منه اليوم مشتتة وغير موحدة وبعيدة عن قواعد الجماهير الا في فئات نخبوية محصورة ، عاجزة عن تطوير نفسها وفي تحقيق نجاحات جديدة رغم تاريخ طويل من التضحيات والكفاح الوطني والديمقراطي في بلدان عربية متعددة حقق اليسار فيها نجاحات في إطار الحركات الوطنية في مراحل مختلفة سابقة .