في مقالات سابقة، في "الأيام"، حاولت أن أسأل السؤال الآتي:
هل سينزل الإسرائيليون بعشرات الآلاف إلى الشوارع؟
أفادت عشرات التقارير، ومن مصادر مختلفة، ومعظمها كانت من التقارير "المحايدة" أو المستقلة، أن تظاهرات السبت قد وصلت إلى حدود الـ (مئة ألف متظاهر ومتظاهرة)، وأنها قد جرت بكثافة غير مسبوقة في تل أبيب، والقدس، وحيفا، بالرغم من حالة الطقس الماطر، والأجواء الباردة.
الشارع الإسرائيلي "المعارض" أجاب بـ (نعم).
وكان يوم السبت، أول من أمس، هو الاختبار الأول لقدرة هذه المعارضة على التحشيد، وكان من شأن هذا "النجاح" أن يعزّز من هذه القدرة، وأن يعطي لهذه القدرة قوة دفعٍ كبيرة في القريب القادم من الأيام.
المعارضة التي تستطيع حشد أكثر من مئة ألف متظاهر في أول اختبار، وفي ظروفٍ جوّية غير مواتية لن تتراجع أبداً عن "أهدافها" لأنها باتت تمتلك القوة الكافية ليس فقط للاستمرار، وإنما لتحقيق هذه الأهداف، وربما تحقيق "الانتصار"، أيضاً.
الأوساط "الرسمية" في إطار هذه المعارضة تتحدث عن نوايا مُعلنة بتحويل سلاح التظاهرات إلى سلاحٍ لا يمكن "ردعه" ولا يمكن مواجهته بسلاح "القانون" لأن القانون لا يملك في الواقع أدوات رادعة ضد حق التظاهر، وهو الأمر الذي "سيحتّم" على أنصار الحكومة بقيادة "الثالوث الجديد" (بنيامين نتنياهو وايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش) اللجوء إلى وسائل "غير قانونية" لردع المتظاهرين، وهي مسألة خطيرة إلى أبعد حدود الخطر، كما أنها لن تكون كافية، ولا مجدية ــ حتى لو أقدم "الثالوث" عليها ــ عندما تتحوّل هذه التظاهرات، وتنقلب لتصبح مليونية.
الحديث عن التظاهرات المليونية لم يعد حديثاً في الكواليس، وأصبحت تتحدث به جهاراً نهاراً بعض الأوساط "الرسمية" في هذه المعارضة". وهذا هو المأزق الأول والجديد لحكومة "الثالوث الجديد".
في الأوساط غير الرسمية في هذه المعارضة، ونحن هنا نتحدث عن عشرات المنظمات الاجتماعية الفاعلة والنشطة، في كل مجالات المساواة والعدالة ومحاربة التمييز، مثل "الحركة من أجل جودة السلطة في إسرائيل" وحركة "الرايات السوداء" وأخرى كثيرة من الأوساط "اليسارية" و"الليبرالية" الإسرائيلية.. في هذه الأوساط ترتفع بصورة متسارعة الأصوات التي تدعو إلى مرحلة أعلى من التظاهرات، وهي مرحلة الإضرابات "القطاعية" التي ستنتهي إلى الإضراب العام والشامل.
الإضرابات القطاعية تعني أن حركة المعارضة والاحتجاج انتقلت من الصعيد السياسي إلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وبدأت هذه الحركة بمرحلة جديدة من التحولات الكبيرة والحاسمة.
وعندما تترافق أي أزمة "سياسية"، بصرف النظر عن مدى عمق هذه الأزمة، وعن طبيعتها [وهي أزمة عميقة وطبيعتها حالة نوعية خاصة، لأنها تتعلق بمستقبل طبيعة الدولة ونظامها السياسي] مع أزمات اقتصادية واجتماعية يصبح ردع هذه الحركة، و"التصدي" لها أمراً مستحيلاً، وتصبح الوسائل "القانونية" خارج النقاش والتداول، ويصبح من يلجأ لها ليس فاقداً "للشرعية" فقط، وإنما فاقد للعقل، أيضاً.
دعونا نتصوّر، بمعنى أن نفترض بأن هذا "الثالوث الجديد" لأسبابه الخاصة، ولاعتبارات استثنائية ــ مهما كانت مستهجنة ــ قرّر "التصدي" للمعارضة باللجوء إلى سلاح "القانون" وأدوات "إنفاذ" هذا القانون، فماذا ستكون عليه النتيجة في هذه الحالة؟
لا أظنّ أن بمقدور أحد، ومنذ الآن أن يضع تصوراً لما يمكن أن تسير وفقه الأمور، ولا لما يمكن أن تصل إليه، لكن المؤكد ومنذ الآن أن إقدام "الثالوث الجديد" على مغامرة كهذه هو أمر في غاية الخطورة، وأقل ما يُقال بشأنها هي أنها مغامرة غير محسوبة العواقب، وهي تنطوي على مقامرة طائشة.
وهذا هو المأزق الثاني لهذا "الثالوث" وللحكومة التي يتربع على رأسها.
أما إذا "تعقلن" هذا "الثالوث الجديد"، وقرر عوضاً عن استخدام "الأدوات القانونية" وأدوات إنفاذها اللجوء إلى سلاح التظاهرات المقابلة، والمليونية المقابلة، وهذا أمر قد لا يكون أي مفرّ منه إذا تعذّر استخدام "القانون"، فالمصيبة هنا أكبر وأشمل وأعمّ وأطمّ.
والسبب في ذلك، وبكلّ بساطة هو أن التظاهرة مقابل التظاهرة، والشارع مقابل شارع آخر هو الوصفة المعروفة للحرب الأهلية، خصوصاً أن قطاعات واسعة من الجيش تقف وراء المعارضة، وقطاعات واسعة من "الشرطة" وبعض أذرع الأمن تقف خلف "الثالوث الجديد".. ناهيكم طبعاً، وقبل أي اعتبار آخر وقوف ميليشيات مسلّحة من المستوطنين، ومنظمات "يمينية" شبه علنية، أو شبه سرّية ــ الأمر سيّان ــ كانت على مدى سنوات خلت تحضر نفسها لهذه اللحظة، ويبدو أنها كانت متأكدة من موعد قدومها..!
من هنا فإن اللجوء إلى تظاهرة مقابل تظاهرة، وشارع مقابل شارع في ظل الواقع الإسرائيلي الملموس هو بمثابة الإعلان الرسمي عن اشتعال هذه الحرب.
وهذا هو المأزق الثالث لحكومة "الثالوث الجديد".
وفي ضوء كل ذلك ماذا تبقّى لها ؟
وما هي إمكانية تفادي كل هذه السيناريوهات القائمة؟
الحقيقة هي أن كل الطرق مغلقة بالكامل أمام هذا "الثالوث"، وليس في الأفق أي حلول ممكنة بسهولة، لأن الأزمات الكبيرة ليس لها حلول سهلة.
انسداد آفاق الحل هو المأزق الرابع والأخطر أمام حكومة "الثالوث الجديد"، وسقوط حكومة هذا "الثالوث" هو أمر لا مفرّ منه في المدى المنظور، وهذا بحدّ ذاته ليس مجرد مأزق، لأنه سيولّد أزمة أكبر من الأزمة التي تولّد عنها.
إذا سقطت حكومة "الثالوث الجديد" في مدى زمني مرئي وقريب، فإن أربعة أو خمسة انتخابات جديدة لن تحلّ أزمة الدولة ونظامها السياسي في إسرائيل، ولهذا فإن الحلّ لا يكمن في العودة إلى الانتخابات، لأن الانتخابات لن تلعب دوراً حاسماً في حلّها، وأكثر ما يمكن أن ينتج عن هذه الانتخابات هو العودة إلى نفس النقطة التي كانت قد وصلت لها قبل قدوم "الثالوث الجديد".
الذي أراه هو أن أزمة "الدولة ونظام الحكم السياسي في إسرائيل" لم تعد قابلة للحلّ إلّا بتوفّر ثلاثة شروط:
الأول، هو "اختفاء" نتنياهو من الحياة السياسية الإسرائيلية ليس كشخصٍ فقط، وإنّما كنهجٍ، أيضاً، إذ إن هذا الرجل بالرغم من "قدراته السياسية العالية وكفاءاته المذهلة"، إلّا أنه لأسبابٍ يطول شرحها بات عبئاً على حل أزمة الدولة ونظام الحكم في إسرائيل.
والثاني، هو أن تستعيد القوى "الليبرالية" السيطرة على حزب "الليكود"، أو أن لا تظلّ قوى الاستيطان والتطرف والعنصرية السافرة هي الوحيدة التي تتحكّم بهذا الحزب الكبير.
وأما الثالث، فهو التوافق على "صيغة جديدة" للدولة الإسرائيلية الثانية بعد أن فسدت وفشلت الدولة الحالية.
وهنا لنا عودة لأن إعادة بناء أو الاتفاق على صيغة للدولة الثانية أصبح مستحيلاً من دون التسليم بالحل "العادل" للصراع على أساس الشرعية الدولية، لأن إسرائيل الأولى أصبحت خلفنا، والثانية عاجزة ومنذ الآن حتى عن "ترقيع" الحالة الإسرائيلية، وقد أفلح من يهود إسرائيل من فهم هذا الواقع الجديد، وإلّا لا مناصَ من الغرق.