بات واضحاً أن مأزق الحركة الوطنية الراهنة دخل مرحلة اللاعودة، ويتحول بصورة تدريجية إلى حالة من التفكك غير القابلة للجبر، ذلك ليس فقط جراء فشل برنامجها الذي قادته منظمة التحرير لعقود طويلة لانجاز التحرر الوطني، واصرارها على المضي في طريق الفشل هذا والذي بات فخاً في رمال وهم إمكانية تحقيق التسوية في المدى المنظور، بل وبفعل تخليها عن طابعها التقدمي وعن التعددية السياسية والفكرية. وكل هذا بعد أن كانت قد مثلت ائتلافاً وطنياً عريضاً وفق منظور مقبول وعملي للشراكة في صنع القرار الوطني والعمل على صونه. ولكن، وللأسف، تغير واقع الحال لصالح بنية سلطوية احتكرت الموارد والقرار، وفشلت في تحديد دورها وفلسفة الحكم المترتبة على ذلك لاحكام الربط بين مهمتي استكمال التحرر الوطني، وبناء المؤسسات القادرة على كسب ثقة الناس وتعزيز صمودها وتمكينها من الانخراط الواسع في مناهضة الاحتلال ، وما ألحقه ذلك وما يزال من اتساع عزلة قوى المنظمة والسلطة عن حاضنتها الاجتماعية، حيث باتت غير ذات صلة بضخامة المهام الماثلة أم الشعب الفلسطيني، سيما في ظل التطورات غير المسبوقة في طبيعة الصراع مع حكومة الاحتلال العنصرية والفاشية في اسرائيل .
الصراع على التمثيل
على الجانب الآخر للقوى المهيمنة على المشهد، ورغم اتساع نفوذ حركة حماس والقوى التي تسير في ركبها جراء فشل المشروع الوطني للمنظمة، وانتعاش الفكر الأصولي بفعل التحولات الدولية والاقليمية، وفشل القوى الديمقراطية العربية والفلسطينية في تقديم البديل الديمقراطي إزاء هذه التحولات ، إلا أن المشروع الإسلاموي الذي قادته حركة حماس وصل أيضاً إلى طريق مسدود . فقد ظلت حماس رهينة إستراتيجيات حركة الاخوان المسلمين، ولم تنجح بعض المحاولات التي قادها بعض رموز التيار الوطني في الحركة للاندماج في بنية ومهام الحركة الوطنية، وظلت نزعات السيطرة على التمثيل الفلسطيني واستبدال المنظمة بحماس هي السائدة، ساعدها على ذلك احجام التيار المهيمن على المنظمة والسلطة عن استيعاب المتغيرات في موازين القوى الداخلية، واصراره على استمرار الهيمنة المنفردة بالمصير الوطني، بالاضافة لتسارع حالة التفكك وتَعَمُق حالة الفشل، وبما ينذر باحتمالية انهيار السلطة، سيما في ظل استعار وهم حماس على إمكانية الاستيلاء على السلطة عبر اثبات القدرة على الوكالة الأمنية مع حكومة الاحتلال، ومد مشروع حكمها لكانتونات الضفة واحتمالية تساوقها مع ذلك كواحد من السيناريوهات الاسرائيلية في المرحلة القادمة . فالعقيدة الاخوانية التي ما زالت تهيمن على القرار الحمساوي هدفها السيطرة على عقول الناس، والاحتفاظ بالسلطة لتحقيق ذلك، وكاستمرار لما كان يعرف بالمجتمع البديل، وهي خارج مؤسسات الحكم .
لعبة الانقسام والصراع على الحكم والتمثيل ظلت الأمر الوحيد الذي تمسك به اسرائيل كمن يمسك بأدوات مسرح الدمى. ولعل هذا الأمر،أي انشغال الحركة الوطنية الراهنة في الصراع الداخلي الذي تتحكم اسرائيل بأدوات استمراره، شكل السبب الرئيسي ليس فقط لتفكك الحركة الوطنية وانسداد برنامجيّ طرفيها المتناقضين والمهيمنين، بل وقد كان السبب الأهم لتصاعد الأطماع العنصرية للنظام السياسي في اسرائيل وحكوماته المتعاقبة، واعتقاده بإمكانية حسم الصراع بتفكيك الحقوق والقضية الوطنية معاً.
ارهاصات إعادة بناء الحركة الوطنية
إن أي محاولة لاعادة بناء الحركة الوطنية، وفي ظل انسداد احتمالات نجاح ما يسمى بالحوار الوطني والمصالحة، بما في ذلك الجهود التي بذلتها وما زالت تبذلها الجزائر الشقيقة، يجب أن تنطلق من تحليل دوافع وطابع الارهاصات الوطنية والاجتماعية التي جري ويجري التعبير عنها في العقد الأخير، وتحديداً منذ العام 2015، والبناء عليها. فتلك الارهاصات تتسم باللافصائلية والانفضاض عن حالة الجمود والتكلس التي تسود معظم أطراف الحركة الوطنية ،وتخليها عن دورها الوطني والاجتماعي في آن،.كما أن هذه الارهاصات والحراكات الوطنية والاجتماعية التي تتراوح رسالتها بين رفض هذا الواقع و الاحتجاج على أثاره الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية التي باتت تمس حياة الأغلبية الساحقة للشعب، وتضعف قدرته على الصمود والبقاء، خاصة في ظل تفشى ظواهر الفساد والسيطرة الفئوية على الموارد، لم تنجح حتى الآن في بلورة بديل واقعي، رغم أنها نجحت وبقوة في طرح سؤال هذا البديل، فدعوة بعض هذه الحراكات والارهاصات لاضراب شامل من البحر للنهر في آيار 2021 حظيت باستجابة غير مسبوقة من الشعب الفلسطيني، وقد تكرر الأمر ذاته مع دعوة مجموعة "عرين الأسود" للاضراب العام، حيث لقيت هذه الدعوة استجابة مطلقة وشاملة في أرجاء البلاد .
سؤال البديل
من الواضح تماماً أن سؤال البديل لهذا الواقع بما في ذلك سؤال اعادة بناء الحركة الوطنية بات سؤالاً طاغياً وتتصاعد أهميته في ظل المخاطر الوطنية الداهمة، وما قد يصاحبها من حالة انهيار وفوضى على حساب المصير الوطني والفئات الشعبية، في القرى والمخيمات والاحياء الفقيرة في المدن،التي أفقرت بفعل سياسات الاحتلال من ناحية وبفعل ما رافق الانقسام من ظواهر الفساد والمحسوبية وغياب المساءلة البرلمانية والمجتمعية على حد سواء .
السؤال المباشر الذي علينا أن نتصدى له حول مدخل اعادة بناء الحركة الوطنية، ومن هي القوى المؤهلة لتحمل المسؤولية التاريخية لانجاز هذه المهمة وكيف؟
وهل مدخل الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحقوق المدنية بشكل عام يشكل بوابة الاجابة عن هذا السؤال، سيما في ظل تخلي الحركة الوطنية عن دورها الملموس في هذا المجال، وهل يمكن التصدي لهذه المهمة بدون بلورة أدوات فاعلة ، وهل يمكن لتلك الفئات الاجتماعية الصمود في وجه مخططات الاقتلاع والتهجير ومخططات احكام السيطرة الاسرائيلية على الأرض والموارد، دون توفير ولو الحد الأدنى من متطلبات هذا الصمود وفي مقدمته الأمل والثقة بامكانية التغيير؟ أم أن الكفاح الوطني وتوسيع نطاق المقاومة الشعبية وبناء أدوات الكفاح الميداني الموحدة يمكن أن تشكل لوحدها المدخل لاعادة بناء الحركة الوطنية وبرنامجها الوطني؟
أم أنه وفي الحالة الفلسطينية لا يمكن الفصل بين الوطني والاجتماعي .. بين التحرر الوطني والبناء الديمقراطي، أي بين الكفاح الموحد ضد الاحتلال ، ومتطلبات تعزيز القدرة على الصمود في مختلف الصُعد الاقتصادية والاجتماعية"الصحة والتعليم والثقافة الوطنية" والقضاء والحقوق المدنية بصورة عامة .
إن مدخل الربط يستدعي التوقف عن اجترار التجارب الفوقية التي لم تغادر أقفاص الحوار أو حتى الانشطة النخبوية، والثقة بقدرة القوى الاجتماعية الناهضة سيما في أوساط الشباب والنساء ، و الالتفاف حولها والامساك بيدها، بما يساعدها في تطوير حراكاتها الاجتماعية والكفاحية المتدرج من طابعها المحلي المحدود إلى الطابع الوطني الشامل كخطوات اساسية في سياق اعادة بناء وتنظيم القاعدة الاجتماعية لهذه الحراكات في اطار حركات اجتماعية شبابية ونسوية ومهنية موحدة تربط كفاحها الاجتماعي التقدمي بالكفاح الوطني ضد الاحتلال، وتشكل بمجملها البنية التحتية لاعادة بناء الحركة الوطنية ومؤسساتها الجامعة في الوطن وتجمعات اللجوء.
ويظل السؤال الأكثر تعقيداً وهو هل يمكن في ظل تصاعد عدوانية المحتل أن يجري تظهير النضال الاجتماعي في هذا السياق وكيف ؟