محكمة عليا تدفع ثمن مواقفها المبررة للإحتلال!

8a1afac6f539e24e687661c7c68b608d.jpg
حجم الخط

بقلم:المحامي إبراهيم شعبان

 

 

يدور نقاش ساخن وخطيرهذه الأيام بل قد يكون الأخطر منذ خلق هذا الكيان، حول دور المحكمة العليا الإسرائيلية وبخاصة أن هذا الكيان بدون دستور، من حيث تحديد بل تحجيم صلاحياتها عبر اختيار قضاتها من قبل السلطة السياسية الإسرائيلية، وسن قانون ما يسمى بالتغليب، وبخاصة بعد تشكيل حكومة يمينية دينية متطرفة إثر الإنتخابات الإسرائيلية الأخيرة بزعم أن هذا يمثل إرادة الناخبين.


ولم يقف الأمر عند النقاش والجدال بل ترجم هذا النقاش والجدل إلى خطوات تمهيدية متمثل في مشروع قانون يسحب صلاحيات هذه المحكمة من تحت أقدامها. ويسمح للبرلمان الإسرائيلي (الكنيست) بسن أي قانون تحجب عنه المحكمة العليا الشرعية الإسرائيلية المزعومة بأغلبية بسيطة وبالتالي يتأرجح مبدأ الفصل بين السلطات.


دفع هذا النقاش وهذه الخطوات في تسارع شديد للمقدمة فلم تكد تجف مداد نتائج الإنتخابات الرسمية، حتى برزت بكل قوة وجرأة ظاهرة تعديل النظام القضائي الإسرائيلي. ولم تنتظر هذه الظاهرة اسابيع أو اشهرا حتى تستقر الحكومة، وتبدأ بترتيب أمورها، بل سارعت لمعالجة هذا الأمر الطارىء بشكل عاجل،علّها تستبق الأمور وتحجم دور أعلى محكمة إسرائيلية وترهبها.


ولعل ظاهرة الفساد المتفشية في السلطة القيادية السياسية الإسرائيلية، كانت الدافع المركزي والرئيسي، لإعداد هذا التعديل القضائي. فالوزير درعي المغربي الأصل، الذي حكم سابقا بالفساد وهو الآن محكوم بذات التهمة مع وقف التنفيذ يسعى لأن يكون وزيرا لوزارتين. ونتنياهو مقدمة ضده من قبل النيابة العامة الإسرائيلية ثلاثة لوائح اتهام بخيانة الأمانة والفساد. والشخصين على المحك القضائي، وإن كان الأول أمره مستعجل، وتنظره حاليا المحكمة العليا. ويرجح أنها لن تجيز تعيينه كوزير إن احترمت سوابقها وقيمها وقواعدها ولم ترتعد فرائصها. وإن جرى هذا الأمر، سيصبح تآلف نتنياهو محل اهتزاز وخطورة أو محل سقوط. لكن الأخطر من ذلك هو مصير المركز القانوني للمحكمة العليا ذاتها والذي قد يطيح به مثل هذا القرار، لذا هي في مركز شديد الحساسية، والكثير ينتظر بفارغ الصبر، كيفية تصرفها بهذا الموضوع لانه سينعكس على كثير من الأمور السياسية، بل السياسيون ذاتهم ومصيرهم.


يبدو أن نهج المحكمة العليا الإسرائيلية المتراخي التوافقي التصالحي المتنازل على مرّ السنين، مع تصرفات وقرارات السلطة التنفيذية بفروعها كافة قد أنتجت هذا العصف السلطوي بها، إلى حد أن تجرّأ عليها اشخاص مدانون بأحكام قضائية، أو هم ماثلون أمام المحاكم بتهم رشاوى وفساد، أو ينتظرون محاكمات وعليهم شبهات، وأيديهم ليست بيضاء.


فمنذ بداية الخمسينيات قبلت هذه المحكمة، والتي تسمى عليا، بسمو نظرية الأمن على البعد الإنساني، فقبلت التمييز العنصري ضد الفلسطيني الأصلي، وسلمت بأنظمة الطوارىء بدل أن تلغيها أو تقيدها، وطبقت قانون أملاك الغائبين ضد الفلسطينيين العرب الذين هجروا أملاكهم تحت ذريعة الخوف والتهديد بالقوة. وتنازلت عن تقييمها الذي يفترض أن يكون موضوعيا في جميع شؤون الإعتقال وتفاصيله، واستسلمت وقبلت بدون مناقشة، لرأي ضابط أمن لا يفهم سوى القوة لغة وأسلوبا بل تزييف للحقائق بذرائع وحجج. وقبلت إقامة حكما عسكريا لفلسطينيي فلسطين وقيدت حقوقهم وملكيتهم وحرياتهم بشكل تمييزي وعنصري، ولم تكن حكما منصفا ولا موضوعيا ولا عادلا.

 

 وكانت دائما تتبع رأي السياسي والأمني الإسرائيلي وتركت جانبا مبادىء العدالة والإنصاف. ورغم ذلك كان الكثيرون يشيرون إليها بالبنان ولا يحققون بهذه الإشادة.


وأصبحت سياسة هذه المحكمة جلية واضحة لا تخطئها العين بعد حرب 1967، وبخاصة بعد أن أدخل إليها مئير شمغار ( النائب العام الإسرائيلي الليكودي) اختصاصا بصلاحية رؤية النزاعات بين الفلسطينيين وقرارات الحكم العسكري، بحجة العدالة المزعومة. ووقع في هذا الشرك فقهاء كبار على مستوى العالم، وأشادوا بهذه الخطوة الإسرائيلية الإستثنائية، وما علموا ببواطنها،وما أدركوا أنها كانت خرقا واضحا لاختصاص هذه المحكمة ذاتها، وهو بما يجري داخل إسرائيل من أحداث فقط.


فهذه المحكمة التي ستواجه أياما عصيبة مع الحكومة الحالية اليمينية التوراتية، قبلت بعد عام 1967 بالإستعمار الإستيطاني وأقرته قانونا وقبلت به، رغم نص المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظره حظرا مطلقا، بل إنها رفضت الإعتراف قانونا باتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 وبروتوكول 1977. وحاولت باستمرار ليّ النصوص القانونية الدولية لتطويعها لخدمة أهداف السلطة التنفيذية السياسية الإسرائيلية. بل إن بعض قضاتها هم من المستوطنين الذي يسكنون المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية.


ذات المحكمة لعبت دورا مناقضا لمواثيق حقوق الإنسان التي أقرتها السلطة السياسية الإسرائيلية وصادقت عليها مثل ميثاق الحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 ، وميثاق حظر التعذيب لعام 1984 ، فها هي تقر بما يسمى ب ( الضغط الجسماني المعتدل)، وهي تسمية مضللة للتعذيب ذاته، وتأخذ به وبنتائجه. بل إنها لم تلاحق الكثيرين من الإسرائيليين، المتهمين بممارسة هذه الجريمة النكراء حتى لوكانوا غيرإسرائيليين مثل مصطفى الديراني من حركة أمل، حتى أنها رفضت تعويضهم عن أفعال رجال الأمن الإسرائيليين، بالقيام بتعذيب المعتقلين. اي أن المحكمة لم تقم بابسط واجباتها الإنسانية وانزلقت وراء والسلطة التنفيذية السياسية في كل خطواتها بدل الحد منها وغطت على أفعالها.

 

 وغضت الطرف أن كثيرا من رجال الأمن المعذبين ، بعد إنهاء خدماتهم قاموا بمهام مدنية شتى في الوزارات والبلديات.


وها نحن نرى منزلقا خطيرا آخرا للمحكمة العليا الإسرائيلية ، التي تعتبر الملاذ الأخير للعدالة ، حينما رفضت تسليم جثامين المقاومين الفلسطينيين لأسرهم وأهاليهم لمواراتهم الثرى بشكل إنساني، وكريم بعد الوفاة. وحاججت وقبلت منطق السلطة التنفيذية التي تقض مضجعها هذه الأيام. حتى الجثامين في القبور لم تسلم من إنسانية قضاة المحكمة العليا، وبقيت نهبا لغرائز السياسيين وهواجسهم.


محكمة تبتعد عن الشأن الإنساني وتمتثل للقوة الأمنية وفظائعها ووحشيتها، فها هي ترفض وداع ابن معتقل لأبيه المودّع أو لقاء أخيرا لأمه الصابرة، أو إفراجا يعد أيامه الأخيرة، أو إفراجا بعد اعتقال إداري غير منصف، وبعد أن أنهكه الصيام عن الغذاء لمدد طويلة، أو مشاركة في فرحة لسويعات لأخ أو أخت، فهي تتشدد أكثر من ضابط الأمن ذاته. وهي لا تطبق ذات القواعد التي تطبقها على المجرمين الجنائيين الإسرائيليين في خطوة تمييزية واضحة.


محكمة قبلت العقوبات الجماعية بحق الفلسطينيين، فأقرت سياسة هدم المنازل. وأقرت سياسة الإبعاد خارج الوطن وداخله ومن داخل القدس وخارج المسجد الأقصى. وسلبت المواطن الفلسطيني أرضه بذرائع سخيفة سلطوية استبدادية. وأقرت ضم القدس وحل مجلس بلدية القدس عام 1967.

 

 ورأت بنفسها أعدل وأفضل من قضاة محكمة العدل العليا الدولية في قرارهم بشأن الجدار عام 2004وبالتالي رفضته.


محكمة عليا على مدى السنين في كيان بدون دستور، اعتقدت بسذاجة أنها على وئام مع السلطة التنفيذية عبر تنفيذها لسياستها وخطواتها وقراراتها، ولم تتحداها ولم تناقضها، ولم ترسم سياسة منفصلة عنها، تواجه اليوم أكبر تحد وجودي لها عبر ما يسمى قانونا بالإنحراف التشريعي، فإما تثبت أقدامها وتغير سياستها أو يجرفها التغيير المقترح للمجهول. وتصبح أداة شكلية تنفذ رغبة السياسي والوزير، وينتهي مبدأ الفصل بين السلطات، وتغدو المحكمة العليا الإسرائيلية في يوم لا ينفع الندم أثرا بعد عين. فالحياة معركة البعض فيها يقود والبعض فيها يقاد، فإن لم تستطع أن تكون سيدا، فلا تكن عبدا للآخرين!!!