بين كريم وماهر، ومانديلا والنبي يونس

BGh5Q.jpg
حجم الخط

بقلم طلال عوكل

 

 

 

لو كان عميد أسرى الحرية، نيلسون مانديلا حيّاً، وقادراً على الحركة، لجاء إلى فلسطين، إلى وادي عارة، لكي يتنازل عن عمادته للثنائي كريم وماهر يونس، سبعة وعشرون عاماً قضاها مانديلا في سجون الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لم تمنعه جدران السجن وقضبانه، وقسوة السجّان من أن يتابع كفاحه من أجل حرية بلاده.
في السجن ليس متاحاً لمانديلا، ولا لكريم وماهر، استخدام العنف، ضد السجّان ولكن الإرادة، والتفاؤل، والإصرار على نيل الحرية، كانت أقوى من هراوات السجّانين، وقمع المحتلّين.
لأكثر من سبعين عاماً، لم يتوقّف نضال الأفارقة، ضد الاحتلال البريطاني، وصنيعته النظام العنصري، ولكن الفوز كان لأصحاب الأرض، والحق والتاريخ.
منطقية المقاربة بين ما عاشه جنوب أفريقيا، مع ما عاشه ويعيشه الشعب الفلسطيني، فالاحتلال البريطاني هو المسؤول عن تأسيس وإنتاج مشاريع استيطانية للغرباء، لتنتهي إلى نظامين عنصريين متشابهين إلى حد كبير.
أربعون عاماً من الزمن، قضاها كل من كريم وماهر في سجون الاحتلال، كانت تساوي معدّل عمر الإنسان الطبيعي في زمن سابق لكنها بالنسبة لهما، كانت ضريبة معلومة سلفاً، لقناعة راسخة بأنهما أصحاب الحق والأرض، وأصحاب التاريخ وصنّاع المستقبل.
الإرادة في الحياة ومتابعة الكفاح، والأمل في المستقبل كانت السلاح الأقوى والأمضى في مواجهة الاحتلال، الذي يعتقد أن حبس الجسم، سيؤدي إلى حبس الفكرة، وإحباطها ووأدها.
الانتقائية حتى في النصوص الدينية هي من تجعل السجّان يتناسى دروس التاريخ فثمة مقاربة أخرى مع الفارق بين النبي يونس (عليه السلام)، وفارسي الوطنية كريم وماهر.
تختلف الروايات بالنسبة للزمن الذي قضاه النبي يونس في بطن الحوت الضخم، لكنه معلوم بالنسبة لكريم وماهر، ولكن المعلوم، أيضاً، بحسب الروايات الموثوقة أن كريم وماهر قد سقطا في بطن الحوت الاحتلالي، حيث الظلمة والظلام والظلم.
كان إصرار النبي يونس على دعوته التوحيدية وجهاده من أجل إنقاذ قومه من الكفر، شفيعة عند رب العالمين، لكي يأمر الحوت بأن لا يأكل لحمه ويهرس عظامه، إلى أن أمره بقذفه على الشاطئ وهو بكامل الإحساس والوعي.
لست متأكّداً إن كان كريم وماهر، أو أي منهما استلهم قصة النبي يونس، ولكنهما، أيضاً، امتلكا الإيمان بدعوتهما، وامتلكا إرادة المقاومة والبقاء ومتابعة النضال، مهما طال أمد بقائهما في بطن الحوت الاحتلالي العنصري.
لم تفتر عزيمة البطلين خلال وجودهما الطويل في السجن، وقاوما كل محاولات تركيعهما نفسياً وجسدياً، وإلحاق الهزيمة بوعيهما الوطني الراسخ.
في السجن بقي البطلان يُرسلان رسائلهما التي تبثّ العزيمة والإرادة، ليس في نفوس أسرى الحرية وحسب بل، أيضاً، في نفوس أبناء الشعب الفلسطيني، من تعرّف إليهما شخصياً من أبناء البلد، ومن لم يعرفهما إلّا كقامتين في السجن.
ثمة درس بليغ في سيرة البطلين، اللذين تركا خلفهما عشرات الأسرى الذين قضوا أكثر من عشرين عاماً، ذلك أن السجن والقضبان لا يمكن أن تغلق أمام الحرية إلى الأبد.
لا بدّ أن يأتي اليوم الذي تكسر فيه القضبان، وتهدم فيه الجدران، طالما أن القناعة بالحق عميقة، وطالما أن الإرادة قوية وموجودة في زمن يقهر فيه الإنسان الجبال ويحطّم أقسى الصخور.
يفتخر العنصري الفاشي إيتمار بن غفير بأن الشرطة الاحتلالية استجابت لدعواته بمنع مظاهر الاحتفال، ومنع إقامة الخيام، ومنع رفع الأعلام أو أي مظاهر احتفالية.
ممنوع بصكوك احتلالية عنصرية، أن يعود البطلان لممارسة نضالهما السياسي والتنظيمي وحتى الدعاوي، وبمعنى أو آخر ممنوع عليهما الكلام ومن المحتمل أن يظلّا تحت الرقابة الشرطية الظاهرة والعلنية من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
لا يفهم المحتل العنصري الفاشي، أن الابتسامة التي تظهر على محيّا البطلين، كفيلة وكافية لأن تهزم إجراءات السجّان، لأنها تسخر من هذه الإجراءات، وتبثّ رسالة مفهومة وقوية لدى المواطن الفلسطيني في كل مكان.
هذه الابتسامة كافية لقهر الذين تزاحموا نحو إصدار قرارات وقوانين عنصرية، بسحب الجنسية وربما حق الإقامة ممّن يقتفي آثار البطلين، خصوصاً في أراضي العام 1948.
غير أن العلم الفلسطيني سيظلّ مرفوعاً، يرفرف فوق كل ساريات وأعمدة الوطن. فمن يبادر من دون قرار حزبي أو سياسي، لمقاومة المحتل، والمستوطن، باستخدام الحجر، أو السكين، أو البندقية، لا يمكن أن يتردد في رفع العلم.
لقد أصبحت الدوائر الإسرائيلية المرتجفة، تعرف تمام المعرفة، أن الشباب والصبايا الذين يمارسون أعمال المقاومة لا تهمهم النتيجة، فهم في الغالب، إما شهداء أو جرحى أو معتقلون.
قد لا يسعف الوقت كريم وماهر، لكي يعيشا إلى أن يتحقق حلم الحرية للوطن، بعكس ما حصل مع مانديلا، لكنهما متوجّان حتى قبل أن يتنسما شعاعات الحرية، فلقد كانا أحراراً ولأن ما حصلا عليه إن هو إلّا توسيع دائرة الحرية والتنفس.
كريم وماهر قامتان نضاليتان عاليتان، يتوّجان قامات كثيرة وكبيرة من المناضلين الذين سبقوهما، والذين ينتظرون، ما يستدعي من الكاتب جدعون ليفي لأن يعيد نشر مقالته، أو كتابة مقالة أخرى، في وصف شعب استثنائي، شديد الحيوية والقدرة على الإبداع.