موجة يسارية جديدة في أميركا اللاتينية.. أيّ آفاق؟ (1 من 3)

حجم الخط

بقلم داود تلحمي

 

 


في اليوم الأول من العام الجديد 2023، تولّى لويس إيناسيو دا سيلفا، المعروف شعبياً باسم "لولا"، رئاسة البرازيل، أكبر بلدان أميركا اللاتينية مساحةً وسكاناً وأكبر اقتصاداتها، والاقتصاد العاشر في العالم كله، وذلك بعد أن تفوّق في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، التي جرت في أواخر تشرين الأول من العام المنصرم، على الرئيس جايير بولسونارو، المنتهية ولايته والذي كان يسعى لولايةٍ ثانية. وهذه هي المرة الثالثة التي يتولى فيها "لولا" الرئاسة بعد أن جرى انتخابه للمرة الأولى في أواخر العام 2002، وأُعيد انتخابه في أواخر العام 2006 لولايةٍ ثانية انتهت في أواخر العام 2010، حين انتُخبت مرشحة حزبه ديلما روسيف لتخلفه في رئاسة البلد، لكون دستور البلد ينصّ على عدم قابلية إعادة الانتخاب لمرةٍ ثالثة على التوالي. وأنهى "لولا" ولايتيه هاتين وهو يحتفظ بشعبيةٍ مثيرة، حيث أعطته استطلاعات الرأي في نهاية ولايته الثانية أكثر من 80 بالمئة من التأييد في بلده الشاسع، الخامس في العالم من حيث المساحة، والسابع من حيث عدد السكان (215 مليوناً).
وفي الكلمة التي ألقاها في حفل التنصيب، الذي أُقيم في اليوم الأول من العام الحالي 2023، قال لولا: "من غير المقبول أن يكون دخْل الـ5 بالمئة من الناس الأغنى في هذا البلد يساوي دخل الـ95 بالمئة الآخرين.. أن تساوي ثروة ستةٍ من أصحاب المليارات البرازيليين ما يملكه المئة مليون شخصٍ الأفقر في البلد".
وبتوليه الرئاسة من جديد، ينضمّ لولا، العامل والنقابي السابق ومؤسّس "حزب الشغيلة" اليساري في الثمانينيات الماضية، إلى سلسلةٍ من الحكّام اليساريين الذين جرى انتخابهم في القارة اللاتينية منذ أواسط العام 2018:
ففي تموز 2018، انتُخب اليساري أندريس مانويل لوبيس أوبرادور، المشار إليه عادةً بالأحرف الأولى لاسمه في اللغة الإسبانية "أملو" AMLO، رئيساً للمكسيك. والمكسيك هو البلد الثاني من حيث عدد السكان في القارة اللاتينية والاقتصاد الثاني فيها كذلك، بعد البرازيل.
وفي تشرين الأول 2019، انتُخب ألبرتو فيرناندِس، من تحالف اليسار البيروني "جبهة الجميع"، رئيساً للأرجنتين، البلد الرابع من حيث عدد السكان في أميركا اللاتينية والاقتصاد الثالث فيها.
وفي تشرين الأول 2020، انتُخب لويس آرسيه (Arce)، مرشح "الحركة من أجل الاشتراكية"، رئيساً لبوليفيا، بعد أقلّ من عامٍ على الإطاحة بمؤسّس هذه الحركة اليسارية، الرئيس السابق إيفو موراليس، الذي كان قد انتُخب رئيساً للمرة الأولى في كانون الأول 2005، وأُعيد انتخابُه أكثر من مرة ليستمرَّ رئيساً حتى أواخر العام 2019.
وفي حزيران 2021، انتُخب اليساري بيدرو كاستيّو، المنحدر من أحد الشعوب الأصلانية للقارة الأميركية، رئيساً للبيرو، البلد الخامس من حيث عدد السكان في أميركا اللاتينية، والاقتصاد السادس في القارة.
وفي كانون الأول 2021، انتُخب اليساري الشاب (36 عاماً) غابرييل بوريتش رئيساً لتشيلي، الاقتصاد الخامس في القارة، في تحوّلٍ كبيرٍ في مسيرة البلد الذي كان قد شهد، في العام 1973، انقلاباً عسكرياً دموياً أطاح برئيسٍ يساريٍ منتخب (سلفادور أييندي)، وفرضَ حكماً عسكرياً قمعياً دام حتى العام 1990. وشهد البلد بعد ذلك تعاقباً على الرئاسة بين شخصياتٍ يمينية ويسار-وسطية.
وفي تشرين الثاني 2021، انتُخبت اليسارية سيومارا كاسترو رئيسةً لهندوراس، البلد الواقع في أميركا الوسطى، والصغير نسبياً (حوالى 10 ملايين نسمة).
وفي حزيران 2022، شهدت كولومبيا، البلد الثالث من حيث عدد السكان والاقتصاد الرابع في القارة اللاتينية، والحليف التقليدي الرئيس لواشنطن في القارة حيث أُقيمت فيه سبع قواعد عسكرية للولايات المتحدة، مفاجأةً كبرى في انتخابات الرئاسة مع نجاح المرشّح اليساري غوستافو بيترو، الذي كان في زمنٍ ماضٍ عضواً في المعارضة المسلّحة للأنظمة اليمينية المتعاقبة على البلد.
وإذا أضفنا إلى هذه البلدان كلاً من فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا التي يحكمها يساريون، تبدو القارة اللاتينية في مطلع العام 2023 وقد اختارت غالبيتها الساحقة طريق اليسار، حتى وإن كانت بيرو قد شهدت "انقلاباً برلمانياً" في الشهر الأخير من العام المنصرم أطاح بالرئيس اليساري المنتخب بيدرو كاستيّو، الذي زُجّ به في السجن. وكانت بيرو قد شهدت في السنوات الست السابقة سلسلةً من الإطاحات المشابهة، حيث جرت الإطاحة بأربعة رؤساء آخرين قبله بين العام 2016 والعام 2021، ثلاثة منهم حُوكموا بتهم الفساد والرابع انتحر. ولم يمرّ الانقلاب الأخير بهدوء، حيث شهدت البيرو منذ الإطاحة بكاستيّو، في السابع من كانون الأول 2022، سلسلةً من التظاهرات والحراكات الشعبية الواسعة المحتجّة على الانقلاب البرلماني، والرافضة للفريق الحاكم الجديد. وهي حراكات كانت متواصلة عند كتابة هذه الأسطر، مع أن القمع الشديد الذي مارسته السلطة الجديدة قاد إلى مقتل أكثر من 40 مواطناً، وإصابة المئات. وفي حين أبدت واشنطن تأييدها للسلطة الجديدة، أعلنت 14 دولة في أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي إدانتها للانقلاب ودعمها لكاستيّو كرئيسٍ شرعيٍ منتخب.
من جانبها، شهدت البرازيل، يوم الأحد 8 كانون الثاني 2023، أي بعد أسبوعٍ على تولّي "لولا" لمهماته كرئيس، اجتياحاً قام به مئاتٌ من أنصار الرئيس اليميني المنتهية ولايته بولسونارو لمقر البرلمان (مجلسَي النواب والشيوخ) والقصر الرئاسي ومقر المحكمة العليا في قلب العاصمة برازيليا. وأحدثت الجموع التي تدفقت على هذه المقرّات الرسمية خراباً وتدميراً واسعين فيها قبل أن تتمكّن الشرطة الفيدرالية من إخراجهم منها، وإلقاء القبض على المئات منهم. وقامت سلطة لولا بعد ذلك بإزالة خيام الاعتصام التي أقامها أنصار بولسونارو، منذ انتهاء الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، في العاصمة وغيرها من المدن قرب معسكرات الجيش البرازيلي، والتي سعوا عبرها لحثّ القوات المسلحة على التدخّل للإطاحة بالقيادة اليسارية المنتخبة، بحجة وجود تزوير في الانتخابات حال دون التجديد للرئيس السابق. وهو سيناريو ذكّر بما جرى في واشنطن قبل عامين ويومين بالضبط، أي يوم 6 كانون الثاني 2021، عندما اجتاح أنصار دونالد ترامب مقرّ الكونغرس الأميركي، وتسبّبوا بالكثير من الخراب، بالحجة ذاتها تقريباً.
وهكذا، وإذا تركنا البيرو جانباً، إلى أن تتّضح الأوضاع فيها، يظهر أن هناك، في مطلع العام 2023، سبعة بلدانٍ من البلدان العشرة الأكثر سكاناً في أميركا اللاتينية، وعشرة بلدان من أصل ثمانية عشر بلداً تعدّ خمسة ملايين نسمة فما فوق في أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي تقودها حكوماتٌ يسارية، بما فيها البلدان الأربعة الأكثر سكاناً في القارة، وهي: البرازيل والمكسيك وكولومبيا والأرجنتين، والاقتصادات الخمسة الأكبر في القارة، التي تتشكّل من هذه الدول الأربع بالإضافة إلى تشيلي.