ثمة ما يدعو للثقة، بأن انشغالات الدنيا كلها، لا يمكن أن تؤدّي إلى تجاهل أهمية وتأثيرات ملف الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية على نحو خاص.
يخطئ من يفرّق في تفاصيل الأوضاع الراهنة العربية والإقليمية والدولية، ويستنتج منها، أن القضية الفلسطينية قد تخرّج من دائرة الضوء.
قد يحصل ذلك بالمعنى النسبي ولبعض الوقت، ولكن ثمة جملة من العوامل التي تعيد للقضية ألقها، وأهميتها وخطورتها.
أوّل هذه العوامل، الطبيعة الاحتلالية الإرهابية، العنصرية الفاشية للمشروع الصهيوني والقائمين على تنفيذ أهدافه الأولى، ذات الأبعاد التوسعية الإلغائية التي لا تقف عند حدود أرض فلسطين التاريخية.
لا يمكن لنتنياهو ولا لكل السحرة، أن ينجحوا في تجميل أو تلطيف، الأزمة العميقة التي دخلتها إسرائيل، انطلاقاً من السياق الطبيعي في المجتمع والطبقة السياسية التي أنتجت حكومة من هذا النوع الذي ينطوي على خطر وجودي على إسرائيل.
إسرائيل اليوم، وبعد أقلّ من شهر على تسلّم الائتلاف الحكومي شديد التطرف، الذي يدير الحياة في إسرائيل، تعاني جملة من التناقضات، التي سيكون من الصعب معالجتها، أو إدارة عقارب ساعتها إلى الوراء.
تناقض بين الفلسطينيين في كل الأرض الفلسطينية وليس فقط في الضفة والقدس، وبين احتلال، وبنية عنصرية، تتفاقم إجراءاتها، لتطال ليس فقط الحقوق السياسية، والاعتراف بالوجود، وإنما تطال حتى أبسط الحقوق المدنية.
في آخر ما ورد، مشروع قانون في الكنيست يستهدف أعضاءه من العرب، في حال تعرّضوا لاتهامات بالتحريض على ما يسمّونه الإرهاب.
إقرار هذا القانون "قانون العنصرية" والإشارات التي وردت من الشرطة بمنع رفع العلم الفلسطيني في الأماكن العامة، وخلال الاحتفالات باستقبال الأسيرين المحرّرين كريم وماهر يونس، من شأنه أن يؤدّي إلى تعميق وتحفيز الصراع، بين الأقلية العربية والمجتمع اليهودي والدولة وليس فقط استهداف النواب العرب في الكنيست.
هذا القانون عنوان معركة ووصفة أكيدة لتأجيج الصراع الداخلي وإحداث شرخ كبير في المجتمع الإسرائيلي، ذلك أن الأقلية الفلسطينية الكبيرة من مواطني الدولة، لها كل الحق في التعبير عن ثقافتها وهويتها، في حال كان النظام ديمقراطياً أو غير ديمقراطي.
لا يوجد قانون في الدنيا يمنع الفلسطيني من أن يعبّر عن التزامه بهويته والتعبير عن تطلعاته، إلّا في دولة غير ديمقراطية، تلتزم وتمارس العنصرية بأبشع صورها وأشكالها، وبأبشع الأدوات.
التناقض الآخر، شامل اللون والعرق حتى بين اليهود، وبين المتدينين والعلمانيين، والغربيين والشرقيين، وبين المجتمع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس، وبين المجتمع في الأراضي المحتلة العام 1948.
بالإضافة إلى السياسة الحكومية الرسمية التي تشجع على المزيد من التوسّع الاستيطاني، والسماح للمستوطنين بحمل السلاح وتشكيل ميليشيات مسلّحة، ثمة تغوّل على الفلسطينيين في النقب، واستعدادات لإخلاء الخان الأحمر، ومسافر يطا، والشيخ جرّاح، والتجمعات البدوية في الأغوار، ترافقها سياسة منهجية لهدم بيوت الفلسطينيين في المنطقة (ج)، بذريعة المساواة، كما قال بنيامين نتنياهو الذي سمح بإخلاء البؤرة الاستيطانية قرب نابلس، وبأنه سيفعل الشيء ذاته تجاه منازل الفلسطينيين بحجة عدم الترخيص.
ثمة تناقض تتسّع هوته بين الائتلاف الحكومي، و"المعارضة" التي بدأت تشمّر عن سواعدها، وتقوم بنشاطات جماهيرية واسعة، لرفض الانقلاب على الديمقراطية، الذي تديره الحكومة والكنيست. حتى الآن، ثمة سفيران، ودبلوماسي، استقالوا رفضاً لهذه السياسة، وثمة إضرابات واحتجاجات من قبل العاملين والشركات التي تعمل في قطاع التكنولوجيا المتقدمة.
وثمة رفض من قبل أكثر من مئة وثلاثين محاضراً في القانون، يعبرون عن رفضهم المساومة على دور واستقلالية القضاء.
هذه الظواهر، من شأنها أن تتسع وتتعمق وتوسع الفجوة بين الفاعلين السياسيين والمجتمعيين، بسبب إصرار نتنياهو وفريقه على تغيير دور القضاء، وإخضاعه لسلطة الحكومة والكنيست.
في رده على قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الذي أرغم نتنياهو على إقالة رئيس حركة "شاس" أرييه درعي، باعتباره غير مؤهل لتسلم منصب وزاري، قال درعي، إنه لا يمكن لأحد عشر قاضياً أن يتمتعوا بسلطة على قرار ثلاثة وستين نائباً منتخبين من المجتمع.
ثمة من يطالب بإقالة نتنياهو، واستدعائه للتحقيق باعتباره هو الآخر، غير مؤهّل لاستلام منصبه بسبب ما نُسب إليه من اتهامات.
وفق كل المعطيات، لا يوجد مهرب من هذه الأزمة المركّبة والمتفاقمة، فلا نتنياهو وفريقه سيسلمون بما تعترض عليه "المعارضة"، ولا هو قادر على إدارة البلاد دون أن تتواصل ارتدادات هذا الزلزال الكبير والتاريخي.
معهد الدراسات الاستراتيجية الإسرائيلي يشخّص التحديات التي تقف أمام إسرائيل خلال هذا العام، ويرى بأن ثمة مخاوف من أن تتدهور علاقة إسرائيل مع الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، فضلاً عن تحدّيات أخرى لا تقلّ خطورة.
في الواقع، ثمة تحفّظ حذر وقلق ينتاب الدوائر الغربية والأميركية على وجه الخصوص إزاء ما تقوم به وما يمكن أن تقوم به حكومة نتنياهو، الإدارة الأميركية أرسلت أكثر من مبعوث خاص بما في ذلك سكرتير الأمن القومي الأميركي لتحذير إدارة نتنياهو.
وثمة متابعة حثيثة من قبل الإدارة الأميركية مع تأكيد على ضرورة عدم تغيير الوضع القائم في الضفة والقدس، بما في ذلك في المسجد الأقصى، وهدم البيوت، والاستيطان، وتعطيل "حل الدولتين" عبر إجراءات أُحادية.
أما العامل الثاني الأساسي، فهو الشعب الفلسطيني، فوجوده وصموده ومقاومته وتمسّكه بالقانون الدولي، وحقوقه الوطنية، تشكل ضمانةً أخرى أكيدة بأن القضية الفلسطينية كانت وستبقى حيّة وحاضرة على كل طاولة.
بالرغم من حالة الهوان الرسمي العربي، إلّا أن القضية الفلسطينية تكتسب يوماً بعد الآخر، أبعاداً شعبية عربية، وإنسانية، تتجه نحو محاصرة العنصرية والفاشية، وتشكيل رأي عام عربي ودولي ينتصر للحق الفلسطيني وتتّسع دائرة تفاعله مع هذه الحقوق وفي مواجهة العنصرية والفاشية.
إسرائيل الراهن والمستقبل ..!
19 يوليو 2024