تميزت سنة 2022 بتسريع العمليات في الفضاء العالمي والإقليمي والإسرائيلي – الفلسطيني والداخلي الإسرائيلي، التي تتحدى الأمن القومي لإسرائيل، وتتحدى نظريات وتوجهات سياسية قائمة، وتقتضي بناء على ذلك إعادة تقدير للواقع الآخذ في التشكل وبلورة سياسية وفقاً لذلك. جزء من هذه العمليات وصل خلال العام 2022 إلى انعطافة واضحة في الوقت الذي تواصل فيه التحديات الأخرى التطور بالتدريج، ما يجعل إعادة التفكير بخصوص النظريات الاستراتيجية السائدة صعبة، رغم الأخطار التي تنطوي على استمرار الوضع القائم.
من بين العمليات التي وصلت في السنة الماضية إلى انعطافة، والتي لم تعد تسمح بالتمسك بالنماذج القائمة، تبرز ثلاث عمليات:
1- ازدياد حدة المنافسة بين الصين والولايات المتحدة، التي بدأت في فترة ولاية الرئيس باراك أوباما وتحولت في العام 2022 إلى مواجهة واضحة ومتعددة الأبعاد بين دولتين عظميين، والتي أصبحت المشكل الرئيسي للساحة الجيوسياسية العالمية.
2- الخطوات العنيفة التي اتخذتها روسيا تجاه أوكرانيا منذ ضمها لشبه جزيرة القرم في 2014، وتطورت في السنوات التالية ووصلت في 2022 إلى حرب شاملة على أراضي أوكرانيا، والتي تهز السلم الأوروبي الذي ساد في القارة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
3- السعي الذي لا ينقطع لإيران من أجل التوصل إلى الذرة حوّلها في 2022 إلى دولة عتبة نووية بالفعل، وذلك في ظل غياب إطار مقيد لاتفاق (ج.سي.بي.أو.إي، تحول إلى "شخص يمشي وهو ميت")، وإزاء عدم استعداد الولايات المتحدة لأن تضع أمامها تهديدا رادعا موثوقا.
هذه العمليات متشابكة ببعضها، وتثير عدداً من الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها السياسة الخارجية والأمنية لإسرائيل. هكذا تدفع المنافسة بين الولايات المتحدة والصين وغزو روسيا لأوكرانيا إسرائيل إلى اختيار جانب، خلافا لسياستها حتى الآن، حيث أقامت إسرائيل في السنوات الأخيرة علاقات متشعبة، سواء مع الصين أو مع روسيا، ساعدتها اقتصاديا وسياسيا. الضغط المتزايد على إسرائيل للتمحور في هذا السياق يضع أمامها معضلات ثقيلة الوزن، وتغيير السياسة في أعقاب ذلك يمكن أن يقلص بشكل كبير فضاء مناورتها السياسية – الأمنية. إضافة إلى ذلك تركز الولايات المتحدة على المواجهة مع الصين ومع روسيا، لذلك فهي مستعدة أقل بكثير مما كانت في السابق لتدخلها في الشرق الأوسط أو اتخاذ مبادرات بخصوص المنطقة.
بخصوص ايران فإن تحولها فعليا إلى دولة حافة نووية (حتى لو كان بدون إعلان رسمي) في حين تستمر جهودها للتمركز في أرجاء المنطقة هي بلا شك التهديد الحقيقي الأكبر على إسرائيل، التي لا يوجد لها الآن أي خيارات مواجهة مرضية. إلى جانب ذلك التعاون بين ايران وروسيا في حربها في أوكرانيا ثمة تحد كبير آخر، سواء بمعنى إمكانية التسلح بوسائل قتالية متطورة أو من ناحية الدعم السياسي – الاقتصادي الذي يمكن لروسيا أن تقدمه لها.
إلى جانب الأخطار الواضحة يوجد في انضاج هذه الخطوات أيضا جانب إيجابي وهو الوضوح: الشك الذي يرافق بشكل عام التدرج والرغبة في تصديق أن ما كان هو ما سيكون، سحق تحت قطعية التغيير – كمية اليورانيوم المخصب بمستوى 60 في المئة بحوزة ايران، التي تكفي لإنتاج اكثر من قنبلة نووية واحدة، وأيضا الغزو البري الروسي حتى ضواحي كييف، لا تترك أي شك، سواء بخصوص النوايا أو بخصوص التداعيات المصيرية لهذه الخطوات.
في المقابل، في دولة إسرائيل نفسها وفي محيطها تحدث عمليات خطيرة لا تقل عن ذلك، حتى لو تم تسريعها في السنة الماضية إلا أنها لم تصل إلى انعطافة حادة. تضع هذه تحديا مزدوجا ومضاعفا، حيث من الصعب جدا إحداث تغيير مفاهيمي وسياسي طالما أنه لا تتم رؤية مقابل جوهري في الواقع وعلى مستوى التهديدات المترتبة عليه. هذه الخطوات تحدث في ثلاثة سياقات رئيسة:
الساحة الفلسطينية
واصلت السلطة الفلسطينية الضعف وفقدان السيطرة على الأرض، خاصة في "السامرة"، في الوقت الذي تجري فيه معركة وراثة الرئيس محمود عباس كرئيس للسلطة الفلسطينية دون أن يظهر وريث متفق عليه، ودون أن يتم إعداد آلية لنقل السلطة بشكل مرتب. الفراغ الحكومي في مناطق السلطة، إلى جانب غياب افق سياسي، دفعا موجة عمليات متفرقة وتنظيمات محلية مثل "عرين الأسود"، وهذه حثت إسرائيل على اتخاذ نشاطات متزايدة هناك، وزادت بدرجة ملحوظة الإمكانية الكامنة لاندلاع مواجهات واسعة. في موازاة ذلك يتسع مشروع الاستيطان في "يهودا" و"السامرة" من خلال الانزلاق الفعلي إلى واقع "دولة واحدة"، الذي يهدد باستبعاد خيارات مستقبلية لاتفاق، يتحدى دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. الأخطار التي تكتنف هذه العمليات يمكن أن تتعاظم إزاء تشكيل حكومة جديدة في إسرائيل، تؤيد بشكل صريح تعميق التمسك بكل أجزاء "ارض إسرائيل"، وحتى الضم. كل ذلك يمكن أن يصعب جدا على إسرائيل في الساحة الدولية، لا سيما في مواجهتها للتهديد الإيراني.
الساحة الداخلية
ازداد التوتر بين القطاعات والمعسكرات المختلفة في إسرائيل جدا في السنة الماضية، يرافقها تقاطب وتطرف على الصعيد السياسي. الائتلاف الذي تشكل في أعقاب انتخابات الكنيست الـ 25 يطرح أجندة يمينية واضحة، يراها جزء كبير من الجمهور أجندة متطرفة بل مهددة لروح دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، في حين أن المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع ممزق ومقسم أكثر من أي وقت مضى، بعد انتهاء اربع سنوات على عدم الاستقرار السياسي والتحريض ونزع الشرعية المتبادلة. كل ذلك يطرح علامات استفهام مقلقة بخصوص القدرة على الحفاظ على أسس النظام الديمقراطي، واستقلالية منظومة القضاء وإنفاذ القانون، والتوازنات على صعيد الدين والدولة وأيضا حقوق الفرد. تشكل علامات الاستفهام هذه تهديدا للأمن القومي الإسرائيلي، سواء في أعقاب إمكانية كامنة لاندلاعات عنيفة على شاكلة "حارس الأسوار"، ولا يقل عن ذلك أهمية بسبب المس بشعور التضامن والتماهي مع الجماعة، وهي أمور حيوية لاستمرار تحمل عبء مواجهة التحديات ثقيلة الوزن من الخارج.
العلاقات مع أميركا
ومع الجاليات اليهودية
العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة، والتي هي ذخر كبير للأمن القومي في إسرائيل، يتم تحديها من خلال تحديات سياسية – اجتماعية أميركية داخلية، وعلى يد ابتعاد الجاليات اليهودية هناك عن إسرائيل، ضمن أمور أخرى، ردا على ما يحدث في إسرائيل نفسها. تعزز التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي الأميركي من جهة، والتحدي في اليمين تجاه النخب التي ينتمي إليها جزء كبير من يهود شرق الولايات المتحدة من جهة أخرى، ضعضع قواعد الدعم لإسرائيل، وكذلك مكانة الجاليات اليهودية. الاهتمام المتضائل للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إلى جانب تشكيل حكومة يمينية واضحة في إسرائيل في الوقت الذي تمسك فيه الإدارة الأميركية بأجندة ليبرالية، تزيد خطوات الابتعاد. تهدد هذه العمليات بقضم الدعم التقليدي الأميركي لإسرائيل في كل المجالات – السياسية والأمنية والاقتصادية – وهكذا المس بشكل كبير بالمكانة الدولية والإقليمية لإسرائيل، بقوتها الاقتصادية، وقدرتها على مواجهة التهديدات الرئيسة عليها، وعلى رأسها ايران.
عن نشرة "تقويم استراتيجي"
* رئيس معهد بحوث الأمن القومي.