هل تتعلم إسرائيل ؟ هل تتقن لمرة واحدة قراءة مسار ممتد منذ أكثر من نصف قرن ؟.
المؤكد أن الممارسة الاحتلالية لا بد وأن تحدث خللاً في العقل وتصيبه بلوثة، لوثة القوة التي تصيب بالعمى، لوثة الطمع في الاستيلاء، ولوثة الشعور النفسي الاستيلائي الاستعلائي الذي يتحول إلى إدمان يقنع صاحبه بأن هذا من عاديات الأشياء، بل وأكثر وفي لحظة ما يتلبس شعور الضحية عندما يتعرض لأي تمرد من ضحيته.
هل يدرك الاحتلال أن شعبه لا ينجو من لعنة السيطرة والقوة ؟.
ذات مرة في التسعينيات قتل سائق تاكسي إسرائيلي سائحتين أجنبيتين، وفي التحقيق تبين أنه كان واحداً من القوات الخاصة التي شكلها شارون للقتل في قطاع غزة في سبعينيات القرن الماضي، تذكرت تلك الحادثة وأنا أستمع لبن غفير وهو يطالب بتسليح الشعب الإسرائيلي ما يعني تحويل كل مواطن إلى قاتل على أهبة الاستعداد، أين ستفرغ تلك الطاقة وتلك الثقافة نفسها ؟
ليست هناك مبالغة في وضع إسرائيل الداخلي ومساره الآخذ بالهبوط من صدع داخلي يجتاح المجتمع إلى بداية هروب الاستثمارات، والخوف من تخفيض التصنيف الائتماني إلى انعدام الأمن. فهل تدرك حكومة إسرائيل أن الأمن لا يتحقق بالقوة وأن القوة تستدعي قوة مقابلة أو على الأقل تخلق مناخات من الغضب وستنفجر حتماً ؟.
كان نموذج جنين القدس هو التعبير الأبرز عن معادلة العنف والعنف المضاد المصاحب له كماً ونوعاً.
كان التعبير الأصدق قد عبر عنه الصحافي الإسرائيلي رون بن يشاي حين قال: «هذا الكابينت لديه توجهات وليس لديه تجربة» والمقصود بالتوجهات القناعات والأيديولوجيا وحين يصاحب هذا انعدام للخبرة تصبح التوجهات ليس أكثر من صواعق تفجير وهذا ما حدث وعندما يكون السلاح بيد مجنون كما يقال يتضاعف الخطر لذا بدت المنطقة أمام خطر الاشتعال وقد اشتعلت.
ماذا ستفعل حكومة نتنياهو التي تمتلك ما يكفي من القوة القادرة على إحراق المنطقة والمدعومة أميركياً بلا حدود حتى وهي تشعل الحقل ؟ منذ العملية في القدس بدت كأنها أصيبت بالتلعثم لطبيعة العملية فقد نفذت في أكثر منطقة تم تحصينها، في القدس الخارجة عن سيطرة السلطة حتى تتخذ ضدها إجراءات، وليس للمنفذ علاقة مع أي من القوى والفصائل لتشن عليها حرباً أو ليسهل عليها إيجاد خاصرة رخوة.
ماذا تقول للشارع الإسرائيلي الذي أطاح بالحكومة السابقة عندما سارع بن غفير للقدس بعد عملية عدي التميمي ليقول للإسرائيليين: انتخبوني وسأضع حداً ؟
لقد تمكنت إسرائيل من وضع القوى المنظمة في إطار معادلات الربح والخسارة والحسابات المعقدة، وتمكنت من عقلنتها إلى حد ما في إطار عملية تدجينها ومن هنا برزت الحالات المتمردة في نابلس وجنين فهناك واقع ومعادلة أكبر من قراءة إسرائيل ومحاولاتها، واقع الاحتلال ومعادلته الطبيعية والتي تعني رفضه بكل الطرق.
ولأن السياسة أو المقاومة لا تعرف الفراغ كان لا بد أن تستدعي الحالة من يملأ فراغها.
وإذا كانت إسرائيل قد تمكنت من نصب كمين معادلتها للفصائل المنظمة جاء ما هو أخطر، العمليات الفردية التي تسميها الذئاب المنفردة التي تجعل من الصعب مراقبتهم كما الفصائل ومعرفة نواياهم، والأهم صعوبة إيجاد هدف للانتقام وللعودة للشارع الإسرائيلي بصورة المنتصر أو حتى لتحقيق الردع الذي تريد. فقد تتمكن من ردع الفصائل أو إحباطها لكن هؤلاء يجيئون من مناخات الإحباط وتلك أزمة إسرائيل الجديدة والدائمة.
ما الذي يمكن أن تفعله حكومة لديها فائض أيديولوجيا وهزال في العقل ؟ عدا الدفع نحو الحريق فستستغل كل هذه الأجواء الذي صنعتها لتطبيق ممارسات الأيديولوجيا بلا حساب والتي كانت حذرة في ترجمتها كالاستيطان والضم والاستيلاء على الضفة الغربية واستكمال السيطرة على القدس. كل هذا لم يكن خافياً لكن رئيس الحكومة كان حذراً وهو يتقدم ببطء نحو تلك المشاريع.
الآن سينفلت باعتباره الضحية التي يجب عدم اعتراضها وهي تتقدم وأن كل ما ستقوم به من ممارسات يأتي في إطار الحفاظ على أمن الدولة، وخاصة حين يأتي لهذه الحكومة رغم كل جنونها هذا الدعم من الولايات المتحدة بدل أن تعمل الأخيرة على كبحها فهي تساهم أكثر في الحريق.
الأمن لا يتحقق بالقوة، لكن إسرائيل اخترعت لنفسها مقولات ونظريات خارج سياق التاريخ ومعاكسة لكل معادلاته. فالقوة لا تستدعي سوى القوة والدمار والجثث والثكالى والخسارات والبكاء والعويل واليتامى.
هكذا تمتد التجربة في هذا الصراع الطويل بين الجانبين، ومن يراقب تقارير إسرائيل الأمنية يمكن أن يرى ببساطة أن أمنها أضعف من أي وقت مضى ولم تزدد حصانتها لا بالقوة ولا بالجدران العازلة ولا بالتصفيات ولا بالسيطرة على الشوارع ولا بالكاميرات ولا باختراع أجيال الأسلحة وتحديثها، كل هذه تنهار أمام شاب غاضب لا يملك سوى قوت يومه وقطعة سلاح شخصية صغيرة لا تذكر في عالم السلاح.
ماذا سيفعل نتنياهو للرد على عملية وضعت أمامه كل العراقيل وحرمته بل ونزعت منه كل المبررات ؟ على الأغلب أننا أمام مسألتين الأولى: إشهار مشاريع اليمين في الضفة وأبرزها القدس واستكمال السيطرة، والثانية لأنه لن يجد مبرراً للرد الفوري قد يستغل محدودية خيارات الرد ليبيع العالم «عقلانية» حكومته التي لم يستطع إقناع العالم بها، فهي فرصة لتبييضها في سوق السياسة ... ولكنها لن تمر بسبب سعار الأيديولوجيا ونَهَم الاستيطان!