إسرائيل تضحي بالدولة الديمقراطية على مذبح الإيمان الديني

israeli_press
حجم الخط



هل الأمر صدفة؟ قرار تقديم لائحة اتهام ضد­ الفنانة نتالي كوهن فاكسبرغ بتهمة الاساءة لقداسة القومية اليهودية جاء موازيا للمصادقة على قانون وسم جمعيات اليسار في لجنة الوزراء للتشريع. لماذا تحول أحد كلاب حراسة الديمقراطية، برنامج «عوفده»، الى كلب هجومي يغرس أسنانه في رقبة آخِر المدافعين عن الديمقراطية، بعد وقت قصير من بث فيلم «المدسوسين» للحركة الفاشية اليهودية الجديدة «إن شئتم»؟ ما هو مغزى الهجوم الحكومي والقضائي والجماهيري والاعلامي، الذي خُطط جيدا، والذي يتم في هذه الايام ضد بقايا اليسار التي تعارض الاحتلال؟.
اغلبية الجمهور اليهودي في اسرائيل – الذي لا يعرف ولا يريد أن يعرف ماذا يحدث وراء الخط الاخضر من قمع ينفذه النظام الكولونيالي العسكري الاسرائيلي في الضفة – يتحفظ جدا على أي احتجاج ضد الاحتلال. وهو يعتبر كلمة «احتلال» بمثابة كليشيه ونتاج لـ «أكاذيب» اللاسامية.
على ضوء ذلك، فان التحريض الحالي ضد «الخونة» و»المرتزقة» و»نحطم الصمت» و»بتسيلم» – حسب تعبير المعارض على شاكلة بوتين افيغدور ليبرمان – يمكن تفسيره كنتاج ليد موجهة تابعة للسلطة تسعى الى توحيد صفوف الشعب من ورائها والسير باتجاه نظام له مميزات فاشية.
لكن الحقيقة هي أن حكومة الاحتلال الحالية لا تعاني من عدم حب الجمهور الكبير، وليست موجودة أمام خطر انتخابي معين. في المقابل، يبدو أن الحكومة والقطاعات الواسعة المؤيدة لها في اوساط الشعب، والتي تكره أن تكون شبيهة بالفنانة كوهن فاكسبرغ، بدأوا يلاحظون وبقلق ازدياد سماع صوت فئة ضئيلة من الاسرائيليين في الخارج ممن هم ضد الاحتلال.
«منظمات مقاومة الاحتلال»، هكذا عرّف جدعون ليفي مؤخرا منظمات حقوق الانسان التي تتعرض اليوم الى هجوم تحريضي، («هآرتس»، 14/1). كان يصعب الحديث بهذه الكلمات قبل بضع سنوات، حينما كانت منظمات حقوق الانسان تتداخل مع منظمات السلام، على شكل مفارقة وضد رغبتهم، في بنية الاحتلال، ويصادقون على طابعه المتحضر بدليل عملهم من اجل من يتضرر منه.
لكن اليوم على أعتاب يوبيل المشروع الكولونيالي الاسرائيلي في «المناطق»، يبدو أن أنماط التفكير والعمل لليسار المسمى «متطرفا» في اوساط «المعتدلين» المسؤولين عن مشروع الزعرنة الدولية، يبدو أنها تتغير باستمرار. نلاحظ هذا بوضوح. مثلا عند «نحطم الصمت» الذين يرفضون نصيحة آري شبيط («هآرتس»، 17/12) بأن يتحولوا الى أداة رقابة داخلية على الجيش والاحتلال – وبالتالي التسليم باستمرار الاحتلال – ويصممون على كشف افعاله أمام العالم.
خطوات مثل هذه، تشجع في جوهرها الاحتجاج الاسرائيلي دوليا ضد مشروع الاحتلال والمستوطنات، بدأت تؤتي ثمارا جيدة. أحد الأدلة الواضحة على ذلك هو وسم بضائع المستوطنات من الاتحاد الاوروبي وايضا قراره الاخير بفصل الاتفاقات مع اسرائيل عن المستوطنات، الامر الذي ما كان ليحدث لولا اقتناع الاتحاد الاوروبي أن هناك وطنيين اسرائيليين يعتبرون استمرار مشروع الاستيطان الكولونيالي وصفة كارثية بالنسبة لدولتهم.
الانجاز الدبلوماسي الآخر ضد الاحتلال هو رفض حكومة البرازيل الموافقة على تعيين رئيس مجلس «يشع» السابق، داني ديان، سفيرا لاسرائيل لديها. هذا الانجاز يسجل لثلاثة سفراء سابقين هم ألون ليئال وايلان باروخ وايلي بار نفي، الذين يرفضون تصديق أن وضع اسرائيل مثل كيان بدون حدود سياسية واخلاقية هو وضع لا رجعة عنه. ويعملون من اجل اقناع العالم الحر بضرورة مساعدة اسرائيل من اجل الفطام من سم السيطرة العليا والتمدد المدمر.
هذه الخطوات التي قد تبدو ثانوية للوهلة الاولى، من شأنها أن تكون السنونو الاولى التي تبشر بالضغط الدولي الواسع الذي سيثبت للاسرائيليين في نهاية المطاف أن «الاحتلال» ليس مجرد مفهوم فارغ يستخدمه المتهكمون من اجل السخرية من اليسار وتسلية المشاهدين، بل هو عبء اقتصادي وسياسي يفضل أن تتخلص دولة اسرائيل منه. في المقابل، اليمين الاستيطاني، حكومته، و»مدسوسوه» في اوساط الجمهور الواسع، يلاحظون بقلق أن المقاومة الاسرائيلية للاحتلال تسير في الطريق الصحيح، ومن هنا تتصاعد القومية المتطرفة نحو كل من يشارك في تلك المقاومة.
ومما ورد أعلاه يمكن التوصل الى استنتاجين اساسيين:
أولا، هذا ليس وقت اليأس، بل العكس – التفاؤل الحذِر. إن الكراهية لليسار في اوساط قادة الاحتلال ومؤيديهم تؤكد أنه لاول مرة منذ سنوات ينجح الاحتجاج الاسرائيلي الداخلي ضد استمرار الكولونيالية العسكرية الدينية ويزعزع ثقتها بنفسها.
ثانيا، على من يعارضون الاحتلال الاسرائيلي الاستمرار في التصميم في نفس خط العمل الذي يُخرج اليمين عن طوره بسبب فعاليته المتراكمة: بلورة جبهة دولية دبلوماسية من اجل تشديد المقاطعة الاقتصادية والثقافية والجماهيرية والاخلاقية على مشروع الاحتلال والمستوطنات. بسبب هذا المشروع تحولت اسرائيل من دولة قومية عصرية الى حركة مسيحانية عسكرية تضحي بالوجود السيادي السياسي الاسرائيلي على مذبح الايمان الديني، ومنطق أنه لا مناص، وتسير مسرعة نحو التدمير الذاتي.

عن «هآرتس»

-