تعودنا على سماع مقولة إنَّ السياسة لعبةٌ قذرة، وهي مصالح لا تحكمها المبادئ ولا تجاورها في حسابات الدول اعتبارات الأخلاق، وهذا هو السرّ وراء لغة النفاق وسياسة الكيلِ بمكيالين، لتبرير مواقف وسلوكيات الكثير من الرؤساء الغربيين، والتي أقل ما يقال عنها أنها مُنحطة ولا أخلاقية!! وبناءً على مجريات هذا الواقع، يمكننا أن نفهم هذا التناقض الذي نشاهده في عالم اليوم على ألسنة القادة والزعماء، حيث تصدر التصريحات والعكس منها دونما حياءٍ أو خجل!! ولعل ما جاء على لسان الرئيس الأمريكي جو بايدن كتعليق على عملية القدس باعتباره "... هجوماً على العالم المتحضر"!! وتكرار القول "إنَّ إسرائيل لها حق الدفاع عن نفسها"، رغم أنها دولة احتلال غاشم!! وفي هذا ما يكفي للتدليل عما قصدنا الإشارة إليه من سياسة ازدواجية المعايير، إذ أنَّ الأولى بمثل هذا القول هو الشعب الفلسطيني، الذي اغتصبت أرضه، وصار من حقه بحسب كلِّ القوانين والأعراف الدولية أن يقاوم المحتل لاستعادة حقه السليب.
في الحقيقة، لقد سبق هذه العملية عشرات العمليات التي سُفكت فيها دماء المئات من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة من قِبل الجيش الإسرائيلي والمستوطنين الصهاينة، ولم نسمع لهذه الإدارة الأمريكية موقفاً يُنصف المستضعفين من الفلسطينيين ويصطف إلى جانب مظلوميتهم، ومل الذي نسمعه هو مطالبات دائمة للسلطة في رام الله والرئيس محمود عباس بالتهدئة والتزام سياسة التنسيق الأمني، والضغط على أُسر الضحايا لمزيد من الصبر والاحتساب، والعضِّ على ما تخضب من جراح الأبناء والأحباب!!
إنَّ هذا الموقف لإدارة الرئيس بايدن بإدانة ما جرى في القدس، والذي جاء كردِّ فعل انتقامي لمجزرة جنين، وتجاهل ما سبق أن حدث في نفس اليوم أو ما يحدث بشكلٍ شبه يوميٍّ من عمليات قتل يقوم بها المستوطنون الصهاينة ضد الفلسطينيين الآمنين، إنَّ أقل ما يوصف به هذا الموقف هو الانحطاط؛ لأنه -باختصار- يستمرئ لوم الضحية والاستنكاف عن إدانة القاتل!! فقط هو يتوعد المقاوم ويصرخ في وجهه، ويغض الطرف عن كلِّ تجاوزات المحتل الغاصب!!
للأسف؛ هذه هي أمريكا، وهذه هي سياساتها ومواقف إداراتها المتعاقبة -بدون رتوش- منذ أكثر من سبعين عاماً.. فعندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، فإن السياسات مليئة بالنفاق والتحريض والاتهامات الظالمة للمقاومة، بدعوى التطرف والإرهاب!!
أما إسرائيل، فهي بالنسبة إلى أمريكا الطفل المدلل، وواحة الديمقراطية الفريدة في صحراء الهمجيِّات العربية!!
بين أوكرانيا وفلسطين: مشاهد ومواقف
إذا أخذنا نظرة شاخصة باتجاه الأفق الأوروبي البعيد، وتعمَّقنا في قراءة ما يجري في أوكرانيا، باعتبار ما لحق بها من "مظلمة إنسانية"، فإن سطور المعادلة تتحرك بغير الطريقة التي يجري العمل بها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تبدو ملامح القياسات مغايرة تماماً في أبعادها القيمية والإنسانية لما عليه واقع الحال عند مقارنتها بما تقترفه إسرائيل ضد الفلسطينيين من حرب مفتوحة وسياسات عنصرية (الأبارتايد) وكافة أشكال العقاب الجماعي والحصار.
إنَّ قراءة لمنطق السياسة الأمريكية تجاه ما يجري في أوكرانيا، الذي يحاول فيه الرئيس بايدن الظهور بصورة الشخص الذي انتفض مدافعاً عن المظلومين هناك، فيما حقيقة مشهد "الجيوبوليتيك" أنها ليست أكثر من عملية استنزاف لروسيا واستدراج ممنهج للرئيس بوتين للولوغ أكثر في دماء الأوكرانيين، وتكريس العداوة والقطيعة مع حلفاء أمريكا الأوروبيين!!
اليوم، بقف العالم أمام مشهدين صارخين من المواجهات في أوكرانيا وفلسطين، حيث تعيش الأولى معارك دامية مع الجيش الروسي دفاعاً عن أراضيها، وتجد أمريكا والغرب الأوربي يقف إلى جانبها يمدَّها بالمال والعتاد العسكري، ويدافع عنها في المحافل الدولية، ولا يترك مجالاً إلا ويعمل على شيطنة روسيا إعلامياً ومحاصرتها اقتصادياً، كما أنه يعمل على تصعيد المعارك على جبهات القتال بين البلدين لتأخذ شكلاً من أشكال الحرب بالوكالة، حيث يفنى مئات الآلاف من الشعب الأوكراني في معارك غير متكافئة مع روسيا، ويتم توريط أوروبا تدريجياً في مواجهة ليس لها فيها -عملياً- ناقة ولا جمل، وربما تصل فيها شرارة التحرشات إلى مواجهة نووية مع روسيا تكون عاقبتها خسارة الملايين من البشر.
السؤال الذي يطرحه كلُّ فلسطيني: لماذا كلُّ هذه المحاباة الأمريكية لإسرائيل والحكومة اليمينية المتطرفة فيها؟ وما الذي تريد إدارة بايدن تحقيقه من وراء هذا النفاق المكشوف لتكتلٍ من القتلة العنصريين، أمثال بن غفير ونتانياهو وسومطرش؟
أليس أجدى بالرئيس بايدن كزعيم لأقوى دولة في العالم أن يطالب إسرائيل بضبط النفس واحترام القانون الدولي، وتمرير ما يدعو له من (حلّ الدولتين)، بدلاً من تشجيعها على سياسة القتل والإفلات من العقاب؟
أليس لأمريكا مصالح أخرى بالمنطقة، وتحتاج إلى مواقف أكثر توازناً لاسترضاء شعوبها العربية والإسلامية، وهل تبعية أنظمة المنطقة كافية لضمان الأمن والاستقرار فيها، وماذا إذا وقع الانفجار "كهبة شعبية عارمة" ضد المصالح الأمريكية، أو تصاعدت موجات العداء والكراهية بمستويات عاتية لا تُبقي ولا تذر!!
تاريخياً، كانت أمريكا هاري ترومان أول دولة تقوم بالاعتراف بإسرائيل عند قيامها في مايو 1948، وقد تعامل هذا الكيان الصهيوني -منذ ذلك العهد وحتى اليوم- مع 14 رئيس أمريكي من الجمهوريين والديمقراطيين، ممن دافعوا عنه ووفروا له الغطاء العسكري والدبلوماسي، ومنحوا رؤساء حكومته من الصهاينة المتطرفين كلَّ ما يبرر ما ارتكبوه من جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية أمام المحاكم الدولية، ويجنبهم المساءلة والعقاب.
إنَّ آخر شيء يمكن أن تتحدث عنه أمريكا وإدارة الرئيس بايدن هو الأخلاق، إذ ليس لها في ذلك نصيب لا في أوكرانيا ولا في فلسطين، وهي دولة من أكثر الدول انحطاطاً ودموية في هذا العالم المعاصر، وشواهد وحشيتها قائمة كنُصب تذكارية وعلامات مسجلة في دولٍ مثل فيتنام وأفغانستان والعراق، ولذا لا يرجى من وراء سياساتها أيّ خيرية للعالمين.
لقد حاولت روسيا لتجنب القيام بغزو أوكرانيا الحصول على ضمانات أمنية أمريكية، ولكنَّ أمريكا بايدن ردت بالرفض وكلمة لا، فكانت المواجهة التي تريدها أمريكا لخدمة حساباتها وحروبها اللاأخلاقية حول العالم.
إنَّ إسرائيل كانت وما زالت حتى اليوم ليس أكثر من دولة وظيفية لخدمة المصالح الأمريكية حول العالم ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص. وعليه؛ فإنَّ علينا ألا ننتظر -كفلسطينيين- منهم عدلاً ولا إنصافاً، والرئيس بايدن في مواقفه وسياساته ليس أقل مكراً أو أضعف حيلة من ذلك الثعلب الذي برز يوماً في ثياب الواعظينا!!
فلكلِّ قياداتنا السياسية وفصائل المقاومة نقول: خذوا حِذركم يا أولي الألباب.