لم تحظى زيارة وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكين، لمصر وإسرائيل ورام الله خلال اليومين الأخيرين من يناير الماضي والتي أعقبت تصاعد التوتر في الأراضي المحتلة بكثير من الاهتمام لا محليا ولا دوليا، ليس لانشغال دول العالم بالحرب الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية بل لمعرفة الجميع وخصوصا الطرف الفلسطيني أن وزير خارجية أمريكا لا يحمل في جعبته أي أفكار أو مبادرات ذات مضامين سياسية يمكنها تحريك عملية السلام أو ردع الممارسات العدوانية الإسرائيلية، بالإضافة إلى معرفة الجميع أن الملف الأمني هو الذي يشغل الإدارة الامريكية، ولا نقصد هنا الملف الأمني في فلسطين المحتلة بل في المنطقة وتحديدا بالنسبة لإيران والخوف من تغيير الملفات والاولويات الأمنية للدول العربية وتمدُد النفوذ الروسي اليها.
كان الملف الأمني له الأولوية في الحوارات التي جرت بين بلينكن وقادة مصر وإسرائيل وفلسطين حتى وإن تحدثت البيانات الصحفية الرسمية التي أعقبت اللقاءات المغلقة عن تناول موضوعات سياسية كالسلام وحل الدولتين، وما يؤكد الأولوية الأمنية أن بلينكن زار مصر قبل إسرائيل والتقى بالرئيس الفلسطيني محمود عباس مباشرة بعد اجتماع الأخير بمدراء مخابرات مصر والأردن، وأن الزيارة تزامنت مع تعرض عدة مواقع حيوية إيرانية للقصف بطائرات مسيرة يُعتقد أنها إسرائيلية وردود الفعل الروسية الغاضبة غير المسبوقة، كما أن بلينكن بعد انتهاء زيارته ترك وفدا أمنيا في المنطقة وليس ممثلا سياسيا.
لقد أكدت زيارة بلينكن وما تمخض عنها من نتائج هزيلة، كالحديث عن السماح بتشغيل الجيل الرابع من الاتصالات وتقديم خمسين مليون دولار للأونروا ومطالبة الطرفين بوقف التصعيد والحفاظ على الوضع القائم في الأماكن المقدسة ومعارضة واشنطن توسيع الاستيطان الخ، كل هذا يؤكد أن القضية الفلسطينية ليست على سلم اهتمامات الإدارة الأمريكية ولا حتى اهتمامات دول المنطقة وخصوصا المطبِعة مع إسرائيل التي لم تفكر أي منها حتى باستدعاء سفيرها من دولة الكيان بعد مجزرة جنين ولا قبل ذلك عندما اقتحم الوزير المتطرف بن غفير المسجد الأقصى، وهذا يضع القيادة الفلسطينية والقصية الوطنية أمام تحديات كبيرة لا ينفع معها الإعلان عن وقف التنسيق الأمني الذي سبق وأن تم الإعلان عن وقفه مرات سابقة قبل ذلك.
ما يجعل القيادة الفلسطينية تشعر ببعض الارتياح أو تقول بأن مراهنتها على تسوية سياسية لم تفشل وما زال في الإمكان التعامل مع الاجارة الامريكية هو تكرار الإدارة الامريكية الحديث الملتبس عن حل الدولتين، بالرغم من أن الإدارة الامريكية تتحدث عن حل الدولتين منذ طرح خطة خارطة الطريق من طرف الرباعية الدولية عام 2002 كما أن الإدارة الامريكية ساعدت على قتل فرصة حل الدولتين من خلال دعمها ومساندتها للسياسة الإسرائيلية ووقوفها في مواجهة أي تحرك دولي في الأمم المتحدة لردع إسرائيل ومعاقبتها، كما أنها لم تطرح أية آلية أو تصور لكيفية تطبيق حل الدولتين.
خلال السنوات الماضية التي كان فيها اعتراف أمريكي وأوروبي، وحتى إسرائيلي في بعض المراحل، بحل الدولتين تضاعف الاستيطان بشكل غير مسبوق وتم بناء جدار الفصل العنصري بل وقفت واشنطن ضد الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر عام 2004 و المندد ببناء الجدار والمطالب بإزالته وكررت ذلك في الثلاثين من ديسمبر من عام 2022 عندما وقف موقفا معارِضا للتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع قرار لإحالة موضوع الاحتلال الإسرائيلي لمحكمة العدل الدولية، كما تزايد تهويد القدس وتم فصل غزة عن الضفة ومحاصرة القطاع والتضييق على السلطة في الضفة .
في ظل القول بحل الدولتين ووجود عملية تسوية ومفاوضات تم بطريقة ممنهجة تدمير البنية التحتية التي تؤسس لدولة على الأراضي المحتلة عام 1967، الأمر الذي يجعل فكرة حل الدولتين والدولة الفلسطينية كاللغز أو الأحجية التي تبحث عن منجم ليقول لنا ما هي جغرافية ومواصفات الدولة التي تتحدث عنها الإدارة الأمريكية؟
الالتباس والغموض الذي ينتاب فكرة الدولة الفلسطينية ليس وليد اليوم ولا يقتصر على الرؤية الإسرائيلية والأمريكية بل يمتد للحظة ولادة الفكرة والرؤية الفلسطينية التي تربط الدولة بالتسوية السلمية.
كان أول طرح لفكرة الدولة المؤسسة على التسوية هو قرار التقسيم لعام 1947 ويمكن القول إن هذه الدولة هي وحدها القابلة للحياة والممكنة لأنها متواصلة جغرافيا وتؤسس على نفس القرار الدولي الذي منح الشرعية لإسرائيل كدولة لليهود، ولكن تسوية أوسلو واقتصارها على قراري مجلس الأمن 242 و338 دون غيرها من قرارات الشرعية الدولية جعل هذه الدولة متجاوَزَة.، مع أن الرئيس أبو مازن عاد مؤخرا للتلويح بالعودة لقرار التقسيم.
بالرغم من انطلاق التسوية مع أوسلو وقبله مؤتمر مدريد وتأسيس التسوية على مبدأ الأرض مقابل السلام، فلا مؤتمر مدريد ولا اتفاقات أوسلو تحدثت عن دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967.
الفلسطينيون وحدهم فسروا أن اتفاقات أوسلو ستؤدي عند نهاية المرحلة الانتقالية في مايو 1999 إلى قيام الدولة، أما إسرائيل فلم تُلزم نفسها بدولة فلسطينية ولم تتحدث عن إمكانية قيام دولة للفلسطينيين إلا بعد أن طرح الرئيس بوش فكرة الدولة عام 202 ثم تمت الإشارة إليها في خطة خارطة الطريق ثم في قرار مجلس الأمن 1515 الصادر عام 2003 المؤيد لخطة خارطة الطريق، وفي عام 2012 صوت غالبية أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار/ توصية بالاعتراف بدولة فلسطينية وذلك بأغلبية 138 صوتا، وهو قرار غير ملزم ولا يتوفر على آليات لتنفيذه.
هذا الغموض المقصود هو ما شجع ويشجع إسرائيل على التلاعب بفكرة حل الدولتين، فبما انه لا يوجد مرجعية دولية تلزم إسرائيل بحدود الدولة وسيادتها، فهذه الدولة للفلسطينيين يمكن أن تكون في الأردن، وقد تعمل إسرائيل أن تكون هذه الدولة في قطاع غزة فقط. وشارون لم يخرج من غزة عام 2005 عبثا، أليس قطاع غزة مجاورا لإسرائيل ولا يوجد به استيطان ومتواصل الأجزاء وقابل للحياة كما تقول خطة خارطة الطريق، ما دام له بحره وحدوده مع مصر؟ وقد تكون الدولة مجرد كانتونات فيما سيتبقى من الضفة يديرها فلسطينيون وليسمونها دولة أو ما يشاءون ما دامت السيادة والأمن لإسرائيل.
الانقسام السياسي الفلسطيني والانقسام الجغرافي بين غزة والضفة وعجز السلطة والنخب السياسية الفلسطينية على الارتقاء لمستوى التحدي هو ما يجعل لإسرائيل وواشنطن الخيار في رسم ملامح وحدود هذه الدولة إن اضطرت منح الفلسطينيين دولة،
لم تعد المسألة اليوم الاعتراف أو عدم الاعتراف بحل الدولتين بل مكان ومضمون الدولة الفلسطينية وأيضا حدود ومضمون دولة إسرائيل، ومن الواضح أن رسم حدود إحدى الدولتين سيحدد حدود الدولة الأخرى وإسرائيل إلى اليوم لم ترسم حدود دولتها، وبات واضحا أن حل الدولتين لن يكون إلا من خلال تسوية وإذا ما استمر الوضع الفلسطيني والعربي على حاله فإن الدولة الفلسطينية الموعودة لن تكون إلا بما ترضى عنه إسرائيل.
وأخيرا فإن تلويح الإدارة الامريكية بحل الدولتين من خلال المفاوضات هدفه أن يستمر الفلسطينيون وخصوصا القيادة الرسمية في التمسك بالوهم وعدم البحث عن حلول أو أدوات نضالية أخرى.