هدم المنازل عقوبة غير شرعية لذوي القربى!

8a1afac6f539e24e687661c7c68b608d.jpg
حجم الخط

بقلم: المحامي إبراهيم شعبان

 

 

لم تجد السلطات الإسرائيلية على اختلافها من وسيلة للحد من أعمال المقاومة الفلسطينية، سوى تدمير منازل أهل المقاوِم وذوي قرباه، وسحب هوية وإلغاء إقامة أهله وطردهم وإبعادهم خارج وطنهم ومكان سكناهم، ووقف مخصصاتهم من التأمين الوطني وقطعها، على الرغم من عدم صلتها المباشرة بالمقاوم شخصيا وكأنها منّة أو صدقة وليست حقا ماليا. وقد لاقت هذه التصرفات اللاقانونية وغير الشرعية من الحكومة الإسرائيلية التي تصنف تحت باب العقوبات الجماعية، تأييدا جارفا من المجتمع الإسرائيلي بكل توجهاته وتطلعاته، فقد وجدوا في الإنسان المدني الفلسطيني المسالم القريب لرجل المقاومة، كبش الفداء الذي يفرغون فيه انتقامهم وسمومهم وحقدهم بحجة الردع عبر هدم منزله الذي أفنى عمره في التحضير له وإقامته.


من المتفق عليه والمجمع عليه أن كل هذه الإجراءات والعقوبات قاسية وغير إنسانية وتعتبر جرائم حرب وضد الإنسانية وفق القانون الدولي الإنساني واتفاقيتي لاهاي الرابعة لعام 1907 وجنيف الرابعة لعام 1949 وبروتوكول الأخيرة لعام 1977 وميثاق المحكمة الجنائية الدولية لعام 1998. ولم تنفك سلطة الإحتلال الإسرائيلية بالضفة الغربية والقدس وسابقا في القطاع، عن ارتكاب مثل هذه الجرائم من ساعة احتلالها للأراضي المحتلة إلى يومنا هذا، مع تفاوت في شدة التنفيذ ومداه.


بعد مرور أكثر من سبعة عقود على سنّ أنظمة الطوارىء البريطانية سيئة السمعة والصيت، في عام 1945في فلسطين، وقبله في جنوب أفريقيا وفي أيرلندا الشمالية، من قبل المستعمر البريطاني ذاته التي أجازت فظائع الأرض ومن ضمنها هدم المنازل وجرائمها باسم الأمن العام والضرورة، فما زالت الحكومة الإسرائيلية ماضية في غيها ومصممة على تبنيها طيلة هذه الفترة الزمنية بل فرضتها على الضفة الغربية وقطاع غزة رغم مخالفتها وخرقها لأبسط قواعد المسئولية الجزائية المستقرة دوليا، وقواعد حقوق الإنسان المتمثلة في مواثيق حقوق الإنسان التي صدقت عليه الحكومة الإسرائيلية ذاتها والتزمت بها، وقواعد القانون الطبيعي وقانون الحرب، ورغم إلغاءها في المواطن الأخرى الشبيهة وفي كثير من دول العالم. بل إن بعضا من الفقهاء الإسرائيليين أنفسهم الذين ابتدعوها مثل شلومو غازيت، وبعضا من قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية مثل التونسي مناحم مازوز لم يستطيعوا هضم شرعيتها، لذا هم يكررون هذه المقولة، ويعتبرون هدم المنازل غير قانوني، بل وصل الأمر إلى حد أن إغلاق منزلي علقم في الطور وعليوات في وادي حلوة بسلوان، قد تما قبل استنفاد الإجراءات القانونية الهشة الشكلية، بضغط من سياسيي اليمين المتطرف إرضاء لنزوات الإنتقام لديهم. ولكن إذا كانت المحكمة العليا الإسرائيلية ذاتها اليوم، محل هجوم جارف من القوى اليمينية المتطرفة في قضايا كثيرة، ومطلوب منها أن تطأطىء رأسها وهي تفعل، فالأولى لها أن تهدر حقوق الفلسطينيين ومنازلهم وتفرط فيهم فهناك ما يقارب الإجماع على ذلك، وبعد ذلك تتصدى لمصيرها هي وكينونتها ذاتها، في وجههم.


هدم المنازل لذوي قربى المقاوم عقوبة غير قانونية البتة. وهذا كلام غير عاطفي بل قانوني، موجود في جميع الأنظمة القانونية بجميع أنحاء العالم بدون استثناء، ولوعرض هذا الموضوع على مبتدىء في علم القانون لأفتى بعدم قانونيته. فالعقوبة يجب أن تكون شخصية لأن المسئولية الجزائية لا يمكن أن تقع عن فعل الغير، فضلا عن أنها يجب أن تكون قانونية. ببساطة من اقترف الفعل يسأل عن العقوبة ولا يسأل أحد غيره بل لا يشترك معه أي جانب من جوانب المسؤولية إلا إذا ساهم مساهمة أصلية أو تبعية في السلوك المقترف. فلا يسأل الأب عن أفعال ابنه وسلوكياته مهما كانت منحطة أو رفيعة، وكذلك الأم والأخ والأخت والعم والخال، وإلا لغدونا في غابة واختلط الحابل بالنابل، لأن كل واحد من هؤلاء لديه شخصية قانونية مستقلة عن الآخرين وله ذمة مالية مختلفة عنهم. والحديث هنا يدور عن المسؤولية القانونية الجزائية وكذلك الدينية الجزائية ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، ولكنها لا تشمل المسؤولية الأخلاقية المرنة المترامية الأطراف المختلف عليها وعلى تخومها وحدودها غير المعترف بها قانونيا.


فعقوبة هدم منزل والد المقاوم الذي قد يكون شهيدا وفارق الحياة، فضلا عن أنها غير شخصية وبالتالي غير قانونية، إلا أنها غير عادلة في كل الأحوال. فالمقاوِم لم يساهم في بناء البيت الذي سيهدم بل إن بعض المقاومين لم يقيض لهم بعد في هذه الحياة ليقدموا لوالديهم أي مال لهم أو دعم مادي أو معنوي لذويهم ، وهم بلا خطة ولا تخطيط أو تنظيم بلدي أو لوائي يسدونها لذويهم. أضف أنها ستؤدي إلى هدم مادي ومعنوي لمسكن ذوي المقاوم، وتؤدي إلى تشردهم والإضرار بهم سواء في أيام الحر اللافح أو في أيام البرد القارس، وإلحاق الأذى بهم ماديا ومعنويا. لذا ابتعدت الأنظمة القانونية عن إقرار مثل هذه العقوبة لأنها غير عادلة على الإطلاق، بل إنها لم تطبقها على عتاة المجرمين في تلك الدولة. وفي الكيان الإسرائيلي لم تطبق عقوبة هدم المنازل على مساكن عتاة المجرمين والعالم السفلي فيه بينما وجد القضاء الإسرائيلي مكانا لتطبيقه على بيوت ذوي القربى العرب في تمييز عنصري واضح، أسموه تعنتا وتحكما بالردع. بل اضافوا إليه اعتقال العشرات من ذوي القربى بحجة الإشتباه وتقديم الدعم له في خطوة توصف بالاستبداد والطغيان وبخاصة اعتقال والدي وإخوة المقاوم وأقربائه بشكل جزافي.


مقولة الردع، مقولة تاريخية ابتدأها موشي ديان، عندما اقترحها على الحكومة الإسرائيلية في عام 1968 لردع رجال المقاومة وعملياتهم، معتقدا أنها تؤدي إلى تقليل عمليات المقاومة بشكل ملحوظ لجدواها وفعاليتها معتمدا على نص المادة 119 من أنظمة الطوارىء لعام 1945. لكن ثبت بالفعل والتجربة أنه بعد خمسين عاما من بعث الحياة في هذه العقوبة إلا أنها لم تردع أي فلسطيني عن القيام بفعلته وعن مقاومة الإحتلال بل لا تشغل حيزا من فكره ولا تردعه أو تردع غيره، وقد أقر كثيرا من الكتاب الإسرائيليين بذلك دون جدوى.


ببساطة شديدة عقوبة هدم المنازل مثال صريح وصارخ للعقوبات الجماعية المحظورة بموجب المادتين 33 و53 من إتفاقية جنبف الرابعة، وخرق فاضح لقانون الحرب بمصادره الأخرى ، اللاتي تحظران حظرا تاما ومطلقا تدمير الممتلكات المنقولة وغير المنقولة ( العقارات والمساكن ) الفردية أو الجماعية أو العامة والعقوبات الجماعية . إن هدم منازل ذوي القربى للمقاومين هو نوع من انواع القصاص المحظور ضد الأشخاص المحميين بموجب اتفاقية جنيف الرابعة. فضلا عن تناقض هذه العقوبة المركزي مع أساس قانون الإحتلال الحربي، المتمثل في التزام دولة الإحتلال المطلق بالتعامل الإنساني مع الشعب الواقع تحت الإحتلال بل يجب أن تقدمه على أمنها. وأستغرب هنا ، كيف يتجاهل قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية الحاليون، قول رئيسهم السابق أهارون باراك في الثمانينيات، بأن على كل جندي إسرائيلي أن يحمل في جيبه توراته المتمثلة في اتفاقية جنيف الرابعة لتكون دليله ونبراسه، أم أن المد اليميني الإستيطاني المتطرف قد ابتلع كل شيء.


عقوبة هدم المنازل لذوي قربى المقاومين عمل ثأري انتقامي وقصاص بربري من قبل سلطة الإحتلال، لأناس أبرياء وأملاكهم المنقولة وغير المنقولة وهي عقوبة مزدوجة عن فعل واحد. فهي تعاقب الفاعل وتعاقب ذويه عن ذات الفعل في ازدواجية واضحة غير جائزة. وهي خرق لقواعد الملكية الفردية الخاصة لا تسعفها تبرير ولا حجة ولا ذريعة. ولعل إدانة الصليب الأحمر الدولي المحايد الصامت المعتكف لهدم المنازل خير دليل على عدم قانونيتها.


سياسة هدم المنازل عقوبة جماعية ومالية وغير قانونية وغير شرعية وغير رادعة، وهي انتقام وقصاص للأشخاص المحميين بموجب إتفاقية جنيف الرابعة من هيئة سياسية محتلة وبدون سند قانوني. لذا يجب تحديها قانونيا أمام المحاكم الأجنبية لأحكامها بجزاء فعلي واقعي وليس بقرارات وتوصيات مجردة من هذا الجزاء، وبخاصة تحديها أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أو أمام المحاكم الأمريكية إذا كان صاحب البيت أمريكيا، لعل هذا الهدم المتلاحق يجد من يردعه ومن يوقفه، بعد أن جلنا كثيرا دون جدوى في أروقة مبنى الأمم المتحدة في مانهاتن!!!