نهاية وعودة قوة عظمى

تنزيل (4).jpg
حجم الخط

بقلم:د. ناجي صادق شراب


 

في منتصف ليلة الحادي والثلاثين من ديسمبر/كانون الأول عام 1991، أي قبل 32 عاماً انتهى الاتحاد السوفييتي إحدى الدولتين العظميين، ومع نهايته انتهى نظام القطبية الثنائية ليحل محله نظام القطبية الأحادية، وحلت روسيا محل الاتحاد السوفييتي. وبدأت الجمهوريات السوفييتية السابقة تتحول إلى دول مستقلة لديها طموحات مستقبلية، وكان من بين هذه الدول أوكرانيا وكازخستان وأزبكستان وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان. والمفارقة في عملية التفكك وجود أكثر من خمسة وعشرين مليون شخص من أصول روسية في هذه الدول.


وكان ميخائيل جورباتشوف أعلن في 25-12-1991 نهاية عمله كآخر رئيس للاتحاد السوفييتي، وسلم السلطة والمفاتيح النووية للرئيس بوريس يلتسين، وبعدها تم إنزال العلم السوفييتي الأحمر من على الكرملين. ويبدأ معه تاريخ جديد لروسيا التي ورثت مشاكل وتحديات كثيرة، أدت إلى انكماشها وتقوقعها داخل حدودها، لكنها ما زالت تمتلك القوة النووية.


لقد تعددت أسباب التفكك وكان من أهمها العامل الاقتصادي الذي لم يعد قادراً على مجاراة الولايات المتحدة صاحبة الاقتصاد الأقوى عالمياً في سباق التسلح، ومن الأسباب الأخرى النزعات القومية للجمهوريات الأخرى والفشل في بناء دولة ذات قومية واحدة مع غلبة القومية الروسية على حساب القوميات الأخرى. ولا شك أن الولايات المتحدة لعبت دوراً قوياً في الدفع نحو تفكيك الاتحاد السوفييتي وهذه إحدى المقاربات الأمريكية للحفاظ على هيمنتها على قمة النظام الدولي، وهي نفس السياسة المتبعة الآن مع كل من الصين وروسيا.


مع تولى الرئيس غلاديمير بوتين السلطة عام 2000 عاد الاستقرار إلى روسيا بعد تسعينات الفقر والجريمة. وأولى اهتماما متوازياً لاستعادة قوة روسيا العسكرية بزيادة حجم الإنفاق العسكري، وفي الوقت نفسه القيام بالعديد من الإصلاحات الاقتصادية، وتوسيع نطاق الشراكات الدولية وترسيخ الوجود الروسي في مناطق مهمة من العالم كمناطق الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا. وحاولت روسيا بحكم مركزها ومحوريتها استعادة تأثيرها ونفوذها على الجمهوريات السابقة. وكما قال المتحدث باسم الكرملين في ذكرى التفكك دميتري بيسكوف: «لقد كانت كارثة أعادتنا للخلف في تطورنا».

 

 وأضاف: «إذا كانت عودة الاتحاد السوفييتي مستحيلة، فإن المنطق يفرض علينا اندماجاً جديداً في منطقة الاتحاد السوفييتي السابقة».


وحسب استطلاع للرأي أجراه مركز «نيفادا» المستقل بمناسبة انهيار الاتحاد السوفييتي، لا يزال 56 في المئة من السكان السوفييت نادمون على تفكك الاتحاد السوفييتي، في حين أن 28 في المئة لا يؤلمهم فقدان الاتحاد السوفييتي. وفي ضوء ذلك نجد أن كل ما تقوم به روسيا بوتين اليوم في أوكرانيا وقبلها في جزيرة القرم هو مدخل لمحاولة استعادة دور روسيا قوةً عظمى.


ولا شك أن الطموحات الشخصية للرئيس بوتين تلعب دوراً مهماً في هذه الاستراتيجية، لكنه يدرك أن المتغيرات الدولية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية ليست كما هي اليوم، فالتحولات في بنية النظام الدولي مختلفة تماماً مع بروز قوة الصين الطامحة للوصول لقمة النظام الدولي وصعود قوى إقليمية كثيره كالهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. وهذا ما يفسر لنا الشراكات الاستراتيجية التي تعمل روسيا على قيامها لمواجهة تأثير ونفوذ الولايات المتحدة.


ولعل هذه الرغبة القومية هي التي تقف وراء الحرب الأوكرانية والتي تهدف، أولاً، إلى استعادة المجال الحيوي الاستراتيجي السوفييتي السابق بامتداداته الجغرافية. وثانياً، تقليص دور الناتو وتوسعه في المنطقة وثالثاً، تثبيت القوة الروسية قوةً عالمية، ورابعاً، إقامة تحالفات إقليمية ودولية جديده أبرزها التحالف الصيني - الروسي. وفي كل تصريحاته يؤكد الرئيس بوتين عزم بلاده على تغيير النظام الدولي أحادي القطبية واستبداله بآخر متعدد القطبية يكون لروسيا فيه دور محوري ومؤثر. معتبراً أن الحرب الأوكرانية هي بداية تغيير هذا النظام وتأكيده فشل النظام الدولي القائم، مؤكداً محورية العلاقات الاستراتيجية الروسية الصينية، إضافة إلى محاولة روسيا تشكيل تحالف اوراس جديد.. ومع ذلك وعلى الرغم من تحقيق روسيا بوتين لبعض الإنجازات لا يمكن القول إن النظام الدولي سوف يتغير في فترة قريبة، فتغير النظام الدولي رهن بنتائج الحروب الكبرى كما في الحربين الكونيتين الأولى والثانية، فالحرب الأوكرانية يبدو أنها ستطول وتحاول الدول الغربية تحويلها إلى حرب استنزاف لقدرات روسيا.


ويبقى القول إن روسيا بعد الحرب الأوكرانية لن تكون كما قبلها، ولا شك أننا نرى استنهاضاً لقوة روسيا ومعها الصين للمشاركة في صياغة النظام الدولي الجديد.