يبدأ العام الجديد، عام الحسم الواضح في تقرير مصير التوازنات كما الأزمات المستعرة في المنطقة، والتي آن الوقت لإطفائها بصلية نار من العيار الثقيل، يصوبها الأوروبيون هذه المرة نيابة عن الأميركيين وبالاتفاق الواضح والمسبق معهم، إلى أقدام بنيامين نتنياهو، إلى الأقدام هذه المرة وربما فوق الرأس قليلاً أو في الهواء، ولكن الرسالة الأسبوع الماضي كانت من القوة والوضوح بما يكفي.
هل هذه الرسالة كانت العلامة والإشارة إلى أنهم أيضاً بصدد تغيير قواعد الاشتباك السابقة؟ قواعد اللعبة في الواقع مع إسرائيل، وأن على إسرائيل أن تفهم أن قاعدة حل الدولتين هي الخط الأحمر وأنه إذا لم تستجب إسرائيل إلى هذا الهدف، فإن ثمة من يفرض عليها بالإكراه هذا الواقع.
لم تكن هذه القرارات أو المواقف قد صاغها أقوياء وإنما كانت تعبيراً عن القوة بذاتها، وهي بهذا المعنى لها ما بعدها.
وقد أوضح الأوروبيون هذه الحقيقة، ومن الناحية العملانية فإن هذا هو بالضبط ما تعلمنا إياه خبرة العلاقات الدولية، فحينما يجري التعبير بمثل هذا الصوت المرتفع عن القوة والتلويح بهذه القوة، فإنه لا يمكن الرجوع إلى الوضع السابق دون تحقيق الأهداف التي تم التلويح بهذه القوة من أجل تحقيقها.
هكذا نعرف أو نتحقق الآن من ثلاثة أمور هي بمجموعها تمثل نقطة تحول في المشهد الفلسطيني والإسرائيلي الراهن:
1- الأمر الأول هو أن الشرق الأوسط بملفاته مجتمعة إنما هو الذي يمثل اليوم أولوية الأجندة الدولية، ويتضح من الموقف الأوروبي الذي تزامن مع تصريحات نادرة وغير مسبوقة في انتقادها لحكومة إسرائيل من لدن السفير الأميركي لديها، أن المنظور أو المقاربة الأوروبية الأميركية إلى هذه الملفات كأزمات متكاملة، تصدر عن جذر واحد هي القضية الفلسطينية.
2- إن ما يسمى بحل الدولتين هو اليوم ليس مجرد خيار سياسي وإنما قرار ومصلحة دولية، وإن الهجوم الأوروبي المضاد بهذا المعنى هو في الوقت نفسه رد على تهرب نتنياهو من هذا الحل ومحاولة إفشاله، وفي الوقت نفسه محاولة تثبيته والإبقاء على فرص تحقيقه.
ولذلك كان واضحاً من المواقف الأخيرة التي وردت في بيان الاتحاد الأوروبي أن الأوروبيين ذهبوا إلى أبعد من حدود صياغة استراتيجية تقوم على هدف تجفيف الاستيطان، وإنما التحذير من أن أوروبا ستواصل مراقبة الوضع على الأرض فيما يتعلق ببقاء خيار حل الدولتين قائماً وقابلاً للتطبيق.
إن الاستيطان الذي يهدف إلى تقويض خيار حل الدولتين إنما هو هدف التصويب من قبل الأوروبيين وشركائهم الأميركيين، وإن ما ورد في الخطاب الأوروبي الجديد ليس تشخيصاً لجوهر الأزمة في جدلية العلاقة بين تمدد الاستيطان وانتفاء خيار الدولتين، في التقدم خطوة إلى الأمام غير مسبوقة على مستوى الخطاب الدبلوماسي في إعلان الأوروبيين الصريح والحاد لأول مرة عن حدود إسرائيل التي يعترفون بها، وإن هذه الحدود التي تسري عليها كل اتفاقاتهم مع إسرائيل هي حدود إسرائيل العام 1948، وإن حدود الدولة الفلسطينية هي الرابع من حزيران 1967.
3- التوافق الأميركي الأوروبي على شكل جديد من تقاسم الأدوار في ممارسة ضغط منهجي وملموس على إسرائيل، ولكن الذي يحدث الآن هو الانتقال من ممارسة الضغط النظري أو التهديد، إلى تفعيل أدوات هذا الضغط بما يشبه لأول مرة انتهاج سياسة العقوبات بالمعنى العملاني والسياسي المتداول، وكان يعتبر هذا التحول في الماضي نوعاً من الخيال أو المستحيل بأن يمارس ضد إسرائيل. إن ما يحدث اليوم هو تغير راديكالي في سياق المشهد السياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وصحيح كما يعزي نتنياهو نفسه من سلسلة هذه الصفعات الأوروبية والأميركية، أن أوروبا ليست كل العالم، ولكن أي عالم وما هو هذا العالم من دون أوروبا ؟ والذي يحدث ليس أن إسرائيل لا تساوي شيئاً إذا قررت أوروبا وأميركا أن تفعل شيئاً، ولكن الإسرائيليين اليوم لا يظهرون غباء سياسياً منقطع النظير، وإنما تراجعاً واضحاً في القدرة على تحليل السياسات الأوروبية وحتى الأميركية بالصورة الإجمالية لما يحدث في الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وربما لا يقتصر هذا الضعف في القدرة على التحليل على الإسرائيليين وحدهم اليوم، وإنما يشاركهم بعض العرب فيما يتراءى من تراجع وعدم الإقدام في سياسة باراك أوباما، وهو خطأ يكشف تضليله وزيفه حدة الاشتباك نفسه وغير المعهود مع إسرائيل حول جوهر الحل مع الفلسطينيين بحيث يبدو واضحاً أن ثمة سباقاً في الزمن في غضون السنة المتبقية من حكم إدارة أوباما، يبدو فيها نتنياهو كما لو أنه اصبح اليوم هو الرهينة.
هل بلغ الأمر حد توسل نتنياهو في دافوس الأوروبيين أن يعاملوه كما يعامل العرب إسرائيل؟ وهل يكون ذلك إلا علامة على نصرنا القريب؟ إذا كان التاريخ وفلسفته يعلماننا أنه لهذا السبب، لأن بعض العرب يظهر هذا التخاذل تجاه الفلسطينيين، ولأن الفلسطينيين لم يستطيعوا وحدهم وبمفردهم كبح جماح الاستيطان، فإن التاريخ لا يحب الفراغات ولا يحب الوقاحات.
وربما ليس بجدارتنا الدبلوماسية تحويل أوروبا إلى هذا الحد، ولكن المؤكد أنه بفضل صمودنا وعنادنا الشرس وعدم الإقرار بهزيمتنا، وإذا كنا طوال الوقت نفكر بانتصارنا فسوف ينتصر العالم لنا وهذا ما جرى.