يشهد العالم اليوم انخفاضا حادا في سعر النفط، ومن المتوقع أن تكون آثاره جلية في انهيار اقتصادات دول وظهور أخرى، وتتباين الآراء بمصير سعر النفط ومصير الدول المرتبطة به أيضا، فمن بين الأسباب التي أدت إلى الانخفاض الحاد في سعره هو دور السياسات النقدية الأميركية من خلال زيادة سعر صرف الدولار الأميركي وتأثيره على القوة الشرائية التي أثرت على أكبر اقتصادات العالم مثل الصين التي تعتبر ثاني دولة في الطلب على النفط، من جهة أخرى فإن الفائض النفطي من دول منظمة الأوبك من النفط الخام لغاية المحافظة على حصتها السوقية، ومحاولة المضاربة على النفط الصخري الأميركي، ورفضها تخفيض الإنتاج، بالإضافة إلى التوجه العالمي إلى تعزيز الطاقة المتجددة كبديل عن استخدام النفط ومشتقاته، ورفع العقوبات عن إيران وعودتها إلى سوق النفط، جميع ما سبق أدى إلى فائض في إنتاج النفط يقابله ضعف في طلب الدول مما أدى إلى انخفاض في أسعار النفط.
ووفقا لهذه الوقائع، فقد اختلف توقع الاقتصاديين بين استمرار انخفاض سعر النفط ومشتقاته، وبين عودة ارتفاع سعر النفط لعدم تمكن الولايات المتحدة من الاستمرار بزيادة سعر الصرف الذي سيكون أثره واضحا في زيادة العجز التجاري، بالإضافة إلى زيادة تكاليف استخراج النفط الصخري الأميركي، ونية إيران تصدير النفط إلى دول مثل الهند، جميع ذلك سيخلق حالة من زيادة الطلب على النفط.
وفي ظل الانخفاض الحاد الحالي وحرب الأسعار والمضاربة في إنتاج النفط ومشتقاته وخلق الفائض في السوق، يبقى المواطن الفلسطيني يرقب هذا الحراك العالمي في تغير وانخفاض السعر ويتساءل عن ماهية دوره في التأثير على الاقتصاد الفلسطيني.
وعند الغوص في التفاصيل تصبح الحقيقة صفعة يتلقاها الفلسطيني أينما ولى وجهه، ففي الوقت الذي كان يجدر أن يلعب انخفاض سعر النفط ومشتقاته دورا رئيسيا في تخفيض تكاليف المنتجات الصناعية والخدمات المرتبطة، يتبين عدم انعكاس المعطيات على واقع الاقتصاد الفلسطيني واستمرار تدهور البنية الاقتصادية.
قد بتم التذرع بارتباط سعر البنزين باتفاقية باريس الاقتصادية التي حددت فارق السعر بين السوق الفلسطيني والسوق الإسرائيلي ليصل إلى 15%، حيث يضاف إلى سعر البنزين الإسرائيلي ضريبة البلو التي تفرضها إسرائيل على كل لتر، بالإضافة إلى ضريبة القيمة المضافة المحددة ب 16- 17%، وبالتالي يجب على المستهلك الفلسطيني دفع جميع الضرائب المترتبة على الوقود، وارتباطا بتنفيذ اسرائيل سياساتها المطبقة تجاه فرق سعر شرائها للنفط من السوق العالمي وبيعه للسوق الفلسطيني. وحيث لم تنص الاتفاقية على مشتقات النفط الأخرى مثل السولار إلا أن ارتفاع الأسعار يطالها أيضا.
لا يكمن الخلل في اتفاقية باريس بل في آلية التطبيق، حيث أن الضرائب التي يدفعها المواطن الفلسطيني سواء على البنزين أو السولار تعود إلى خزينة السلطة وتشكل أحد مصادرها المالية، فيبقى السؤال الذي يدور بذهن المستهلك :
هل تدعم السلطة مواطنيها أم أن مواطنيها هم من يدعموا هذه الخزينة؟ فما هي المفاتيح التي تملكها الحكومة لاتخاذ إجراءات من شأنها الاستفادة من انخفاض أسعار النفط العالمي وبالتالي تخفيض تكاليف الإنتاج، وتخفيض أسعار السلع والمنتجات وزيادة كفاءة وفاعلية السوق وتحريك عجلة التنمية الاقتصادية الهشة؟
تبقى الخيارات وفقا لاتفاقية باريس متاحة لتبني سياسة استيراد النفط ومشتقاته من دول أخرى حسب المعايير المنصوص عليها في الاتفاقية والمتمثلة بتمييز البنزين بلون مختلف وضمان عدم دخوله الأسواق الإسرائيلية، وقد كانت محاولة الحكومة الفلسطينية لتوقيع اتفاقية مع فنزويلا لكسر احتكار الشركات الإسرائيلية في السوق الفلسطيني من أجل استيراد مشتقات النفط نموذجا على إمكانية اتخاذ القرارات التي تخدم الاقتصاد الفلسطيني، (رغم أن فارق السعر سيعود لخزينة السلطة التي تعاني بالأساس من أزمة مالية، ولن ينعكس في انخفاض واضح في سعر البنزين)، ولكن لأسباب فنية تتعلق بعدم إمكانية تكرير النفط فقد تم إلغاء الاتفاقية.
لم تحاول الحكومة البحث عن بدائل أخرى من خلال دولة ثانية، أو استيراده وتخزينه في دولة مثل الأردن وتوزيعه من خلالها ( ولا يرتبط بهذا الخيار تكاليف مرتفعة)، أو تبني وتشجيع الأفكار الريادية التي تدعم الاقتصاد المبني على المعرفة كاستخراج الوقود من المصادر المحلية، وما زال السوق مفتوحا أيضا لتنفيذ إجراءات تخفف الاعتماد على الوقود واستبداله بالطاقة البديلة، جميع هذه الخيارات ترتبط بتكاليف إنشاء مرتفعة ولكن تؤتى ثمارها لفائدة الاقتصاد الفلسطيني على المدى البعيد.
يجب أن لا تكون التكاليف المرتفعة والأزمة المالية الحالية الملازمة للحكومة هي حجة لإقناع المواطن بتقبّل الخيار الأسهل والأسرع وهو الاستيراد من خلال إسرائيل، يجب أولا تغيير منهجية التفكير النمطي التابع للاقتصاد الإسرائيلي، و نعترف أننا لم نتخذ القرار اللازم الذي تتبعه إجراءات تجسد السيادة الفلسطينية، وما يتطلب ذلك من الضغط على المجتمع الدولي لدعم التوجه الفلسطيني للتحرك بالوسائل والإمكانيات المتاحة لتحريك عجلة الاقتصاد وتمكينه للمضي بخطى ثابتة باتجاه تعزيز الاقتصاد الفلسطيني.