الواقع المعاش والعالم الافتراضي

صلاح هنية
حجم الخط

كل خمسة مواطنين يشكلون مجموعة افتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي ليقولوا رأياً أو يضغطوا باتجاه قضية تهمهم أو ينعتون بلدية أو شخصية عامة بأقسى النعوت، جزء من الخمسات تلك صادقو النوايا وهم متوازنون بين كونهم افتراضين وبين كونهم يعملون في الحياة، وجزء من الخمسات يكتفون بأن يكونوا افتراضين وبالتالي يعتبرون أنفسهم مرجعية فيما يذهبون إليه ومن يتنفس يسلخون جلده لأنهم هم الأب الروحي للموضوع ولا يجوز لغيرهم أن يعلق عليه أو يتحدث فيه، وهناك من هم سلبيون افتراضياً من تلك الخمسات وهم سلبيون في الحياة الواقعية، بالتالي لا يقيمون شأناً للتغير أو الضغط أو المناصرة بل هم جماعة شوفيني يا خالة.

من بين هذه المجموعات التي أسميها (الخمسات) تذهب نحو الواقع لتتابع واقع الحال فتجد أن معظمهم غائبون عن الضغط والتأثير ولا يريدون أن يسمعوا أو يتابعوا تطور كل قضية من القضايا، فهم يكتفون ببيان شديد اللهجة ضد معظم القضايا ولكنهم لا يريدون أن يجلسوا ويستمعوا لحال البيئة التشريعية والقانونية في الوطن التي تؤثر سلبياً أو إيجابياً على اتخاذ القرار، هم لا يعرفون أننا لا نمتلك مثلاً قانوناً أو نظاماً لمنح الامتيازات، بالتالي تمنح الامتيازات حسب ما تيسر ويصبح الحاصل على الامتياز مناكفاً على قاعدة أن الامتياز منحه حق التملك في عمل ما يشاء، ولا يعلمون أننا بلا قانون المنافسة ومنع الاحتكار، هم لا يعرفون أن إجبار المواطن على شراء خدمتين أو أكثر غير مترابطتين من ذات المصدر عمل مناف للمنافسة وتعزيز للاحتكار.

البيان الناري والزوبعة الفيسبوكية مريحة تماماً لكل من هو هدف للضغط والتأثير فقد يرد على البيان ببيان توضيحي أو يحصل على مذكرة تفسيرية تشكل له سنداً قانونياً أو التخندق خلف موقعه ويرفض أن يتزحزح عن رأيه، وفي ضوء غياب المجلس التشريعي وضعف قوى المجتمع الفاعلة ضاعت الطاسة وبات الأمر مزاجياً، وبالتالي الرد على الحالة الافتراضية ستكون إمعاناً بالوعود وعدم الالتزام بأي منها لأننا نعلم أنها ليست باليد للتعهد والوفاء بالوعد، فواقع الكهرباء في قطاع غزة أغرق بالوعود وبقي على حاله، والتزود بالغاز للاستخدام المنزلي ليس باليد رغم الوعود ورغم التبرير عن حال الأمواج وعدم القدرة على تفريغ الحمولة، ولا يختلف الأمر عن الوعود التي أطلقت ويومها (ضحكنا ملء فمنا) عندما قيل لنا في ورشة علمية في مؤسسة علمية بحثية:

إن خطاً للأنابيب سيمتد من ميناء حيفا ليصل إلى مركز تخزين خاص بالسوق الفلسطيني ويصب في مصدر تلك الخط محروقات خاصة بنا فقط. حتى أن وزيراً سابقاً كان في الجلسة قال:

هذا لم أقرأه في الإعلانات  ولا البروتوكول ولا التعهدات، فكرك يعني الابتكار من أي قاموس جاي. وموضوع الإسكان في القدس المحتلة وحق السكن في القدس المحتلة لم ولن يسعفه تكرار الوعود والدراسات وتقارير حالة قطاع الإسكان في القدس حتى لو خلصت النوايا حولها.

بعيداً عن العالم الافتراضي ومن صميم واقع الحياة المعاشة وصعوباتها وتعقيداتها فإن الرأي العام الفلسطيني لم يعد يقيم على أساس حسن النوايا وعلى الطلة البهية لهذا المسؤول أو ذاك، بل بات ينتظر أفعالاً على الأرض بغض النظر عن حجم الصلاحيات وبغض النظر عن التعقيدات وبغض النظر عن الانقسام، بات هناك معبرون عن طموح الرأي العام لا يقيمون وزناً كون هذا المسؤول ابن تنظيمهم السياسي أم مستقلاً، ولا يقيمون وزناً لأن رئيس تلك البلدية أو مسؤول تلك المؤسسة ابن عشيرتهم أو خالهم أو عمهم، بل يقيمون وزناً للأداء والإنجاز على الأرض والابتعاد عن المناكفات التي لا تغني ولا تسمن من جوع والسعي الحثيث لتغييرات شكلية تمس أشخاصاً بناء على حسابات ضيقة لا تؤثر إيجابياً على بناء قدرة المؤسسات وتقوية هذه البنية، بل هي في الغالب نتاج لحسابات ضيقة جاهزة مسبقاً أو جاءت نتيجة للدس من هنا وهناك.

الرأي العام لم يعد رهينة بيد من يظنون أن خطاباً نارياً بخصوص تعزيز الديمقراطية وحقوق المزارعين والانحياز لفظياً للقطاع الزراعي، بل بات لديه أداة للقياس حدية ترى الأمور بصورة مختلفة تماماً عما يعتقد أصحاب الخطابات النارية، وأداة القياس تحتكم للجدية والالتصاق بالناس وهمومهم وأولوياتهم، ومدى الجدية في الضغط والتأثير وتحقيق نقلة نوعية في هذا الملف أو ذاك. في العالم الافتراضي يجب أن يكون ما يطرح من خلاله نتاجاً لجهد يسبقه ولضغط وتأثير يسبقانه ومن ثم يثار الموضوع افتراضياً لقياس مدى التفاعل مع الأمر وما هي الأولويات، ويستخدم موقع التواصل الاجتماعي أيضا للحديث عن قصة النجاح عن فرق نوعي هنا أو هناك، ولا يحتمل موقع التواصل الاجتماعي إطلاق النار في الهواء أو الحديث عن تغطية العورات بورقة توت أو لن يمر ولن يمروا.