تتابعت زيارات المسؤولين الأميركيين للمنطقة بصورة مكثفة، حيث قام كل من مستشار الأمن القومي جاك سوليفان، ومدير وكالة المخابرات الأميركية «سي آي إيه» وليام بيرنز، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، بالحضور إلى هنا في غضون أقل من أسبوعين، ولقاء المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين وبعض المسؤولين العرب، ما يعكس اهتماماً أميركياً غير عادي بمجريات الأمور والتطورات الحاصلة في منطقتنا التي تبدو الآن وكأنها على برميل بارود، وبالذات بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة بنيامين نتنياهو، وبشراكة مع أقصى اليمين العنصري المتطرف في إسرائيل، والتصعيد الخطير الذي يترافق مع بدء تنفيذ برنامج هذه الحكومة، الذي يريد القضاء بشكل نهائي على إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وكذلك اندلاع الخلافات الداخلية الإسرائيلية على خلفية تطبيق حكومة نتنياهو «إصلاحاً» في قطاع القضاء والعلاقة بين السلطات في إسرائيل.
ليس طبيعياً أن يأتي ثلاثة مسؤولين رفيعي المستوى بهذه الصورة المكثفة، وأن يبقي وزير الخارجية بلينكن مساعديه في المنطقة لمتابعة العمل والاتصال مع مختلف الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية؛ من أجل التوصل ربما إلى تفاهمات تقلل من حدة التوتر السائد في المنطقة. وهذا إنما يعكس قلقاً أميركياً حقيقياً من تطورات الأحداث، خاصة أن الولايات المتحدة تخوض حرباً مصيرية بالوكالة، وبشكل شبه مباشر، في أوكرانيا ضد روسيا، وحرباً أخرى لا تقل أهمية مع الصين حتى لو لم تكن عسكرية باستخدام الأسلحة النارية. فالصراع الذي يشغل بال واشنطن هو على طبيعة النظام العالمي، هل يبقى تحت هيمنة أميركا وحلفائها، أيْ نظام القطب الواحد كما هو سائد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، أم يتحول إلى نظام متعدد الأقطاب كما تريد روسيا والصين وأطراف عديدة متضررة في العالم؟
مشكلات الشرق الأوسط تقلق أميركا وتشتت انتباهها وتركيزها، ولهذا وجب العمل على التهدئة وإطفاء الحرائق على الأقل إلى حين الانتهاء من حرب أوكرانيا، التي على ما يبدو ستطول أكثر من المتوقع وستستنزف أطرافاً كثيرة، خاصة في الغرب، ولكنها بمقاييس كثيرة حرب كونية ومصيرية بامتياز تفوق أهميتها الصراعات القائمة لدينا، والتي لم تخرج عن السيطرة التامة بعد. وزيارة المسؤولين الأميركيين استهدفت حل مشكلتين عاجلتين من وجهة نظر الإدارة الأميركية:
الأولى التصعيد الحاصل على ساحة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وبالذات بعد عمليات الاجتياح الإسرائيلية المكثفة للمناطق الفلسطينية، وقتل عدد كبير من الفلسطينيين بحجة محاربة المجموعات المسلحة التي تستهدف الإسرائيليين، وتكثيف الاستيطان وعربدة المستوطنين، والاستفزازات في الحرم القدسي، وكذلك ردود الفعل الفلسطينية التي كانت ذروتها في تنفيذ عملية إطلاق نار ضد الإسرائيليين في منطقة بيت حنينا (حي «نفيه يعقوب» الاستيطاني)، حيث قتل 7 إسرائيليين في هذه العملية الفردية التي تلتها عملية أخرى نفذها قاصر بإطلاق نار على إسرائيليين في حي سلوان في القدس.
التدخل الأميركي للحدّ من لهيب النيران كان بممارسة ضغط شديد على القيادة الفلسطينية للعودة عن قرار وقف التنسيق الأمني، الذي تنظر إليه كل من إسرائيل والولايات المتحدة على أنه خطير على الأمن والاستقرار في المنطقة. وكان العرض الأميركي المقدم للفلسطينيين مخيباً للآمال. فإدارة الرئيس جو بايدن لا تزال تبيعنا الهواء، وتكرر وعوداً لم تنفذ منها شيئاً بعد مرور أكثر من نصف ولايتها: فلا هي أوفت بوعدها بفتح القنصلية الأميركية في القدس، أو إعادة فتح مكتب تمثيل منظمة التحرير في واشنطن، ولا حتى استئناف الدعم المادي للسلطة. ناهيكم عن الوفاء بالتزامها بالحفاظ على أفق حل الدولتين. فما قدمته بخصوص الموقف الإسرائيلي الذي يدمر هذه الفكرة هو مجرد وعود بتقليص بعض أوجه السياسة الإسرائيلية، وليس بالعمل على كف يد إسرائيل عن تنفيذ خطة القضاء على إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة. بمعنى أن المطلوب من الفلسطينيين هو مائة بالمائة جهد للعودة للتنسيق الأمني وضبط المناطق المشتعلة وحفظ الأمن فيها، بينما ما هو مطلوب من إسرائيل تخفيف وطأة سياستها دون إلغائها، أي بالتطبيق على نار هادئة دون إثارة.
وبعض وسائل الإعلام الإسرائيلية تحدثت عن صفقة عرضها وزير الخارجية بلينكن على إسرائيل، تتضمن إغراءات في موضوع التعاون معها في الملف الإيراني نحو مزيد من التصعيد ضد إيران لمنعها من تطوير برنامجها النووي، ومساعدتها في ملف العلاقات مع السعودية نحو تطبيع العلاقات معها، مقابل الحفاظ على الوضع الراهن مع الفلسطينيين، بعدم القيام بخطوات استيطانية استفزازية أو هدم بيوت أو تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، وتقوية السلطة الفلسطينية. ونتنياهو لم يرفض الصفقة لكنّ هناك شكوكاً بتنفيذها فلديه التزامات نحو شركائه في الحكم الذين يهددون بالانسحاب من الحكومة في حال لم يطبقوا برامجهم التي اتفقوا حولها.
المشكلة الثانية التي تقلق واشنطن، وتكرس لها حيزاً مهماً من اهتمامها، هي الصراع الداخلي الإسرائيلي، الذي يهدد مستقبل إسرائيل. ويبدو أن بلينكن تخلى عن الحيادية والدبلوماسية في التعاطي معها عندما أورد تفاصيل ما تريده الولايات المتحدة من إسرائيل بشأن ما يسميه القيم الديمقراطية المشتركة التي تجمع الدولتين، ومطالبة نتنياهو بعدم تنفيذ إصلاحاته دون توافق مع الجميع. ويظهر من كلام وزير الخارجية أن الإدارة الأميركية، التي تتأثر أيضاً بموقف ناخبيها اليهود الذين يدعم غالبيتهم الحزب الديمقراطي، توجه إنذاراً لإسرائيل بشأن عدم الإخلال بالنظام الديمقراطي القائم على فصل السلطات وحرية الرأي والمساواة بين الجميع.
اجتماع بكين: بارقة أمل أم خيبة جديدة؟
23 يوليو 2024