ثمة انفتاح عربي نحو دمشق، أمر يشبه الحجيج تحت ستار المساعدات الإنسانية والغوث الطبي وفرق البحث والإنقاذ. هول الكارثة الإنسانية التي ألمّت بسورية وتركيا تعقد اللسان، وتثقل على ضمير المراقب والمحلل السياسي، وهو ينقب تحت «الركام الهائل» و»الدمار العظيم»، عن «خلفيات وآفاق» سياسية يمكن استنقاذها واستشفافها، ولكن الحياة الواقعية تأبى إلا أن تفرض منطقها الخاص: أنسنة السياسة وتسييس العمل الإنساني.
بهذا المعنى، تبدو كارثة الزلزال، الأعنف منذ قرن، بداية مشروع تفكيك لقانون «قيصر» وعقوباته الجائرة والصارمة على سورية، نظاماً وحكومة وشعباً.. فلا معنى للقول الأميركي: إن هذه العقوبات تستهدف النظام وتستثني الشعب، فأكثر مَن يكتوي بنارها هو المواطن ورجل الشارع العادي في سورية، ولا معنى لقول أصدقاء النظام وحلفائه: إن الشعب وحده مَن يتضرر بهذه العقوبات ويُستهدف بها، فالنظام بدوره يترنح تحت وطأتها الشديدة.. اليوم، وبعد أن «زلزلت الأرض زلزالها»، يبدو أن الدبلوماسية ستخرج أثقالها، وستذهب باتجاهات غير مشتهاة، لا في واشنطن ولا في بروكسل.
صحيح أن الزلزال قطع الطرق وهدم المباني وأعاق حركة الأفراد والمركبات، لكنه سيبني جسراً افتراضياً بين دمشق وأنقرة، وكثير من العقد التي حالت دون عودة سورية للجامعة أو عودة العرب إلى سورية، آخذ في التفكك.. الطائرات العربية المحمّلة بالعون والإمداد، تهبط في المطارات السورية تحت سمع «قيصر» وبصره.. المكالمات الهاتفية تنهمر على قصر الشعب ووزارة الخارجية في دمشق، والوفود السياسية بدأت طلائعها بالوصول إلى العاصمة السياسية، بدءاً بالوفد اللبناني الوزاري الموسع.
ذلكم فصل جديد، حافزه إنساني ظاهر، وباطنه سياسي، لكأن «دبلوماسية الإغاثة» تنجح في إغاثة الدبلوماسية من جمودها وكبواتها..لا نريد هنا أن نجرد السياسة من «إنسانيتها»، ولكننا نسعى للكشف «عمّا هو سياسي» وراء هذه الخطوات الإنسانية، وذلك أمر مشروع، ومعمول به، وسورية ليست أول التجارب في هذا المضمار، ولن تكون آخرها.
الزلزال لحظة آنية، بيد أن تداعياته وارتداداته، ستبقى لسنوات عدة قادمة، والتعافي من ذيوله وتبعاته، وإزالة آثار دماره، ستحتاج سنوات عدة، ومعها ستتعين إدامة الاتصالات والمشاورات مع الدولة المنكوبة، فتكون الخلاصة، أننا لسنا أمام حدث سياسي ستنتهي مفاعيله اليوم وغداً، بل أمام «عملية» ستتواصل فصولاً في قادم الأيام والأشهر والسنين.. الزلزال الذي حاصر عشرات ألوف السوريين سيكون عاملاً مهماً، في فك الحصار عن النظام السوري وتفكيك أطواق عزلته.
وعلى الجبهة السورية - التركية المشتعلة منذ أزيد من عشرية من السنين، سيكون للزلزال أثر المحرك والمحفّز لوصل ما انقطع.. صحيح أن الزلزال قطع الطرق وهدم المباني وأعاق حركة الأفراد والمركبات، لكنه سيبني جسراً افتراضياً بين دمشق وأنقرة، يسهم في تسريع خطى التقارب التي بدأت قبله، وستتواصل بتسارع أعلى بعده.
سيكون من مصلحة الأسد أن يستكمل مشوار الخروج من شرنقة العزلة، وهو الذي يكاد يختنق وشعبه واقتصاده بنيران «قيصر» وأثمان الحرب في سورية وعليها، أما نتائج الزلزال الكارثية فقد أضافت المزيد من الأعباء على الأعباء التي تنوء سورية تحتها.. في حين، تبدو حاجة أردوغان لأي مكسب اليوم أكثر من أي وقت مضى، لا سيما أن لديه معارضة «موحدة» تقف له ولحزبه وحكومته بالمرصاد، تتصيد كل هفوة، وثمة هفوات وثغرات في جدران الاستجابة التركية لكارثة الزلزال، ولسنا نستبعد أن تعمل الكارثة في غير صالح الرجل وحزبه في الانتخابات المقبلة.
الحرب في سورية استحدثت فالقاً زلزالياً باعد ما بين دمشق وأنقرة، والزلزال الطبيعي الأخير ربما يبني جسراً فوق هذا الفالق، يصل ما بين العاصمتين المتناحرتين، ويسرّع الحوار والتفاوض بينهما، بالوسيط الروسي أو الإماراتي، في الإطار الثلاثي أو الرباعي، أو حتى دون وسطاء أو أطر.. الكارثة وحّدت السوريين والأتراك في المأساة، والأرجح أنها ستقرّب ما بين حكومتَيهم.