هيبة الوطن من هيبة القضاء

تنزيل (13).jpg
حجم الخط

بقلم د. اسامه الفرا

 

 

 بعد زيارة تفقدية عادية لوزير العدل المصري في حكومة الوفد نهاية الأربعينيات لمحكمة إستئناف أسيوط، وجد المحكمة على أحسن ما يرام بدءاً من مبناها الحديث والنظام والترتيب والنظافة وإلتزام العاملين والبت في مظالم الناس تحقيقاً لمبدأ العدالة، عاد الوزير إلى مكتبه معتبراً أن ما رآه رأي العين يشكل نموذجاً لا بد وأن تقتفي أثره كافة المحاكم في مصر، وخط رسالة إلى القاضي أحمد حسن باشا يشكره ويشكر العاملين بالمحكمة ويثني عليهم الثناء الجميل ويمتدح تفانيهم في العمل، وبعد أن وصلت رسالة الوزير إلى القاضي جمع قضاة المحكمة وقرأ عليهم ما بها وعندما فرغ من ذلك اخبرهم بأنه سيقوم بإعادة الرسالة إلى صاحبها، لأن من يملك توجيه الثناء والمديح يملك توجيه اللوم وتوقيع الجزاء، وهذا بطبيعة الحال ينسف مبدأ إستقلال القضاء.

يزخر تاريخ المجتمعات، التي جسدت قولاً وفعلاً الفصل بين السلطات، بالكثير من المواقف التي تمسك بها القضاة بالعدالة ودافعوا عن إستقلال سلطتهم القضائية حين حاولت السلطة التنفيذية أو التشريعية التغول على صلاحياتها، ويمكن لنا أن نسترشد بمواقف عديدة من تاريخنا الإسلامي أعجبها ما كان حول سمرقند، فبعد أن فتحها القائد المغوار قتيبة بن مسلم كتب الكهنة رسالة إلى خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز حملها أحد كهنتهم، إستندت شكواهم على أن قتيبة لم يخيرهم قبل أن يغزوهم بين الإسلام أو الجزية أو الحرب، لم يقبل القاضي تبرير قتيبة بأن الحرب خدعة وحكم بإخراج جنود المسلمين من سمرقند، وهو ما كان، مؤكد أننا لسنا في زمن عمر بن عبد العزيز ومن السذاجة المطلقة عقد مقارنات، وإن كانوا في عهده ينشدون العدالة الكاملة دون نقصان فإن أقصى ما نطمح إليه اليوم هو جزء من فتاتها.

لذلك نعود للقاضي أحمد حسن باشا صاحب المنح والمنع والتي باتت تدرس في مدارس القانون، فالحكاية حدثت في زمن كان الإحتلال البريطاني يمسك بزمام الدولة المصرية، وليست ببعيدة عن حادثة محاصرة القوات البريطانية لقصر عابدين وقيام السفير البريطاني "مايلز لامبسون" بوضع وثيقة أمام الملك فاروق يأمره بالتوقيع عليها والتي تتضمن تنحيته عن الحكم أو أن يكلف مصطفى النحاس بتشكيل الحكومة بمفرده دون تدخل من الملك.

ما يعنينا هنا الحالة المتردية التي باتت عليها السلطة القضائية لدينا، كيف سمحنا للسلطة التنفيذية أن تتغول عليها وتجعل منها أداة طيعة في خدمة المتنفذين فيها؟، كيف بات تغيير مجلس القضاء الأعلى أسهل من تبديل مذيع في فضائية غير معروفة؟، وكيف تحول تعيين قاض وإحالة آخر على التقاعد أيسر مما يتطلبه عامل البطالة؟، وكيف جئنا بمحكمة ترتعد أمام إسمها النظم الحاكمة لتصدر حكمها بحل المجلس التشريعي لتنتقل بعدها إلى مقعد الحاضر الغائب؟، وما الذي يدفعنا للصمت على حكومة لا تنفذ قرارات المحاكم؟، ولماذا سكتنا على تسييس القضاء وإلحاقه بالحزبية المقيتة؟، وكيف إلتزمنا الصمت أمام أحكام ما أنزل الله بها من سلطان لأن الفصيل هو من جاء به قاضياً ولم يأت إلى مكانته بعلمه ونزاهته؟، لماذا كل هذا الصمت المطبق من القضاة والمحامين ومؤسسات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني والمواطنين أمام إنهيار السلطة القضائية وتخليها عن إستقلالها وهيبتها؟.

ليس من الترف في شيء أن يكون إصلاح المنظومة القضائية على رأس سلم أولوياتنا، أن نعيد للسلطة القضائية إستقلاليتها ونستعيد بها نزاهة غابت عنها، أن نحصنها من آفة السلطة التنفيذية التي تنخر عظامها قبل أن يفتك مرضها بأمل نتشبث به، لا يمكن لنا أن نقبل بمن يحاول أن يوهمنا أن إصلاح القضاء مرتبط بإنهاء الإحتلال، يمكن لحرية مجتمع يقبع تحت الاحتلال أن تتأخر لبضع سنوات ويحتمل المواطن خلالها وجعه، لكن المجتمع الذي يرتضي تغييب القانون ويقبل بتخلي منظومته القضائية عن مسؤولاياتها وصلاحياتها يكون قد سمح للظلم أن ينمو ويكبر، وللفساد أن يستشري ويشتد عوده، وللفقر أن يستفحل، وللتطرف وأخذ القانون باليد أن يتوسع، وللحرية أن تبتعد أكثر وأكثر، فالمجتمع الذي يقبع تحت الاحتلال بحاجة لسيادة القانون أكثر من حاجة المجتمع الحر له، وهيبة الوطن تستمد من هيبة القضاء فيه.