في الوقت الذي كان فيه وزير الدفاع الإسرائيلي السابق بيني غانتس، ينفرد بلقاء الرئيس محمود عباس، دوناً عن زملائه من وزراء الحكومة البديلة السابقة، خاصة نفتالي بينيت حين كان رئيساً للحكومة، ويائير لابيد حين كان وزيراً للخارجية ومن ثم رئيسا للوزراء، كان يمارس أقصى درجات ومستويات القهر الاحتلالي في الضفة الفلسطينية المحتلة، توّجها بعملية كاسر الأمواج التي تسببت في استشهاد أكثر من مئة وخمسين مواطناً فلسطينياً، واستباح خلالها المدن المحرم على الجيش الإسرائيلي وفق أوسلو دخولها دون إذن فلسطيني رسمي، أما وزير الدفاع الليكودي الحالي يوآف غالانت، ففي الوقت الذي مهد له غانتس الطريق لممارسة العنف المفرط في الضفة الفلسطينية، حيث من غير المنطقي بالنسبة له، أن يمارس ما هو أقل مما مارسه سلفه من حكومة الوسط، لكنه أيضاً وفي ظل رفقة التطرف الفاشي، أي في رفقة إيتمار بن غفير وبتسئليل سموتريتش، شريكيه في الصلاحيات الاحتلالية، يمكنه أن يمارس القهر الاحتلالي بحرية أكبر، حيث سيظهر السيئ أقل سوءاً من ما هو أسوأ.
فقبل أيام، وبعد عملية القدس التي أوقعت ثمانية قتلى إسرائيليين، توافق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع وزيره المتطرف بن غفير، على الشروع في تسليح المستوطنين بشكل واسع، وتشكيل جماعات عسكرية بينهم، أما قبل ثلاثة أيام فقد أصدر بن غفير أوامره بإغلاق العيسوية رداً على عملية الدهس، لدرجة لم يستطع معها المفتش العام للشرطة تنفيذ تلك الأوامر، وفي مقابل قرار بن غفير البدء بعملية السور الواقي 2، عودة إلى ما جرى عام 2002، من إعادة احتلال تام وعنيف جداً لكل الضفة الفلسطينية، فرض يوآف غالانت وزير الجيش عقوبات جماعية مالية، شملت 87 مواطناً فلسطينياً وعائلاتهم من سكان القدس.
هذا يحدث في الوقت الذي ورثت فيه الحكومة الإسرائيلية الحالية المتطرفة، حالة في غاية التوتر في الضفة الفلسطينية علماً أن الحكومة السابقة كانت أطلقت عملية «كاسر الأمواج» كما أشرنا، ولم تغلقها أو تنهيها، وهي تغادر موقع المسؤولية، لذا فإن الإبقاء على تلك الحالة، بل وزيادة منسوبها بصب زيت إضافي على النار المشتعلة، لا يعني سوى شيء واحد، وهو أن مواجهة شاملة وعنيفة، ستقع لا محالة، لا أحد يمكنه أن يتوقع تماماً نتائجها، ولا حجم الضحايا والخسائر التي ستكون بعدها، بما في ذلك زيادة الحالة المعيشية والاقتصادية التي يعيشها الشعب الفلسطيني بأكمله سوءاً، بما قد يعني أن الحالة قد لا تتوقف عند حدود عمليات المقاومة العسكرية، وهنا لا بد من تذكير الإسرائيليين، بأن جعبة الشعب الفلسطيني لن تنضب عن اجتراح العديد والجديد من أفعال المقاومة وأساليبه.
الشعب الفلسطيني بمخزونه الكفاحي، ما زال ضابطاً للنفس، وبعد أن صبر ثلاثة عقود، في انتظار أن يأتي الحل السياسي عبر التفاوض، ها هو يتحرك بهذا المستوى من المقاومة، الذي يعبر عن التحدي والإرادة، ولا يعبر أبداً عن اليأس، الذي قد يقع، في حال جن جنون الحكومة الإسرائيلية وسلمت فعلاً وتماماً مِقودَها لبن غفير وسموتريتش، وأطلقت كل ما في جعبتها من أدوات قتل ودمار وعنف .
سنظل نقول ونذكر، بأن من يريد أن يعيش في هذا العالم بأمن وسلام عليه أن يتعايش مع جيرانه، لا أن يفكر بفرض إرادته عليهم، وآن الأوان للإسرائيليين أن يقتنعوا بأن كل ما يقوم به الشبان الفلسطينيون، لا علاقة له، لا بتحريض ولا بتوجيه، لا من القيادة السياسية، ولا حتى من فصائل العمل الوطني، وسببه الاحتلال، ولا شيء غير الاحتلال، وفعلاً لم نسمع منذ وقت طويل، تلك الحجة وتلك التصريحات التي كان يطلقها قادة إسرائيل عن جهل، وكانوا عادة يحملون بها المسؤولية للسلطة، وذلك رغبة في تدمير إمكانية التوصل للحل السياسي.
بل إن إسرائيل بقادتها المتطرفين، قد فقدت عقلها على ما يبدو، لدرجة أنها لا تستمع لتقديرات أجهزتها الأمنية ولا حتى لوكالة المخابرات المركزية الأميركية التي تشير إلى أن «انتفاضة ثالثة» تلوح في الأفق، وذلك جراء تداعيات الإجراءات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، وقد أشارت صحيفة «هآرتس» إلى رسالة واشنطن لإسرائيل، ومفادها أن لا تسامح مع الأعمال الإسرائيلية من طرف واحد (هنا يبدو المضمون هو عدم الاتفاق مسبقاً مع الأميركيين، وليس المقصود الجانب الفلسطيني) وتحديداً البناء الاستيطاني المنفلت من عقاله، وحقيقة غضب واشنطن يتأتى من تعهدات نتنياهو المتناقضة بين ما يقوله لهم، وما يتعهد به لشركائه المتطرفين.
والأرقام هنا تكشف مستوى التصعيد الذي أقدمت عليه إسرائيل خلال العام الماضي 2022، والمدى الآخذ بالازدياد ارتباطاً بمتطرفي الحكومة الحالية، وتكفي الإشارة هنا إلى عدد الشهداء الذي زاد على 160 شهيداً في العام الماضي، بينما بلغ منذ بداية العام الحالي 38 شهيدا، بمعدل شهيد كل يوم، ليؤكد بأن التصعيد إنما يقدم عليه الجانب الإسرائيلي، وليس الجانب الفلسطيني، يضاف إلى ذلك بالطبع كل أعمال القهر المترافقة مع هذا القتل اليومي، أي أعمال القهر ضد المواطنين بهدم بيوتهم واقتلاع أشجارهم ومصادرة أرضهم، كذلك الإجراءات الأخيرة ضد الأسرى، وما إلى ذلك.
وفيما شهر رمضان بات على الأبواب، والحال هذا، فإن ذلك يعني بشكل شبه مؤكد، بأن مواجهة حامية الوطيس ستقع في شهر رمضان، بل ربما خلال كل أيامه، والجميع يعرف من خلال «رمضانات» الأعوام السابقة، كيف كانت تقع المواجهات، نظرا لأن الاستفزاز الإسرائيلي الخاص باقتحامات المسجد الأقصى، والتطير من رؤية أعداد المصلين والمعتكفين الهائلة، كانت تؤدي إلى اشتباكات عديدة، بالتأكيد ستكون هذا العام مضاعفة، ما لم تتخذ إجراءات احترازية فوراً.
ولأن اقتحامات المسجد الأقصى ارتبط جزء أساسي منها ببن غفير، فإن رمضان يحل هذا العام وبن غفير وزير، وليس وزيراً وحسب، بل هو مسؤول عن حرس الحدود المكلف ضبط الأمن في مدن وقرى الضفة الفلسطينية، أي هو من يصدر الأوامر، لهذا فإن الأصوات التي تطالب إسرائيل بالتوقف عن رفع وتيرة قهرها الاحتلالي، على الأقل، لا تأتي فقط من جانب أعدائها أو خصومها، بل من داخلها، ومن الجانب الأميركي الذي لا يمكن لأحد في إسرائيل أن يشكك في حرصه على مصلحة إسرائيل الأمنية، إلا إذا كان الجنون السياسي قد حل بعقل حكومتها الحالية، لدرجة أن تسعى لإقامة إمارة دينية يهودية/ إسرائيلية، على الأرض الفلسطينية بدلاً من دولة فلسطين المستقلة.