لم تكن مفاجأة تلك الزيارة المهمة التي قام بها الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أوكرانيا، تزامناً مع مرور عام على الحرب الروسية على أوكرانيا، ووسط محاولات من الطرفين الروسي والأوكراني إعادة تعبئة روح القتال بضرورة تحقيق النصر في الميدان.
بايدن تحسب كثيراً لهذه الزيارة الخطرة في ظروف أمنية غير مستقرة، لكنه استعد للمجازفة للذهاب إلى أوكرانيا، ليس من باب الدفاع وإسنادها بالعدة والعتاد فحسب، وإنما لتحقيق المصالح الاستراتيجية الأميركية بالرغبة في تحويل الدب الروسي إلى «نعجة».
بالطبع ثمة أسباب دفعت الرئيس الأميركي لزيارة أوكرانيا ومن ثم بولندا، وهي تتعلق أولاً بتعميق الشراكة الاستراتيجية بين ضفتي الأطلسي، والتأكيد على أن الولايات المتحدة تدعم أصدقاءها وتعطيهم يدها للعبور إلى بر الأمان.
لقد أراد بايدن من هذه الزيارة ترسيخ التحالف الغربي في مواجهة النفوذ الروسي، وهذا كان واضحاً في اجتماع الرئيس الأميركي مع قادة مجموعة «تسعة بوخارست» لدول أوروبا الشرقية، الذي تزامن مع زيارته لكل من كييف ووارسو.
عودة للأسباب التي دفعت بايدن للذهاب إلى أوكرانيا، أن واشنطن تدعم كييف إلى آخر نفس، وتريد لها أن تبقى صامدة أمام آلة الحرب الروسية. هذا عدا عن الدعم الذي قدمه الرئيس الأميركي لنظيره الأوكراني زيلينسكي، في وقت تتراجع فيه شعبية الأخير على وقع حالة عدم اليقين التي تتزامن مع مواصلة القتال.
كذلك تريد واشنطن إبلاغ روسيا ورئيسها بوتين أن الولايات المتحدة ستفعل كل ما يمكن من أجل الدفاع عن ما يسميه الغرب القيم الديمقراطية والحرية والعدالة، ومن الأرض الأوكرانية اتهم -بايدن- نظيره الروسي بالسعي لإبادة أوكرانيا وأن «حرب الفتح التي شنها فشلت».
ورغبةً منه للتضامن مع الشعب الأوكراني ورئيسه، قدّم الرئيس الأميركي دفعة جديدة من المساعدات العسكرية تصل إلى نصف مليار دولار، تتضمن شحنة من الأنظمة المضادة للدروع ورادارات المراقبة الجوية وصواريخ جافلين المضادة للدبابات، والمزيد من دبابات إبرامز.
غير أن الرئيس الأوكراني الذي حصل على موافقة أميركية وأوروبية بتزويد بلاده دبابات جد متطورة، يرغب في الحصول على طائرات «إف 16»، وهو ما لم توافق عليه الولايات المتحدة التي تعتقد أن مثل هذه الموافقة قد تدفع روسيا لإدخال أسلحة فتاكة وأكثر تطوراً على أرض المعركة.
على كل حال، بايدن الذي ذهب إلى بولندا والتقى ببعض قادة دول أوروبا الشرقية، طمأنهم أن واشنطن ستدافع عنهم في حال أقدمت روسيا على استهدافهم، وهذه رسالة إلى موسكو بأن تلتزم حدود الصراع الجغرافي مع أوكرانيا وتمتنع عن تخويف جيرانها من أعضاء حلف «الناتو».
ثم إن زيارة الرئيس جو تعكس حالة الارتباك في الداخل الأميركي، حيث تتعالى أصوات الجمهوريين وفي مقدمتهم حاكم فلوريدا رون دي سانتيس الذي ينحاز إلى فكرة عدم تقديم «شيك على بياض» لأوكرانيا، وتقنين المساعدات ومراقبتها.
بالنسبة للديمقراطيين وعقيدتهم الأيديولوجية، ينظرون إلى مسألة مساعدة أوكرانيا كضرورة أخلاقية والتزام بالدفاع عن الديمقراطية والحرية الفردية، دون استبعاد مصالح أخرى كثيرة، وثمة تسويق في هذا الجانب مرتبط برغبة بايدن في الترشح مرةً أخرى للانتخابات الرئاسية.
الديمقراطيون يتطلعون إلى الفوائد على المدى البعيد والمكاسب الاستراتيجية من دعم الأوكران، لكن عند الجمهوريين الأمر مختلف، بدعاوى أن كل هذه المساعدات تأتي من جيب المواطن الذي يدفع الضرائب، والأولى أن توجه للداخل الأميركي وتسهم في التنمية وتخفيض نسب البطالة والتضخم.
الملف الأوكراني يبقى واحداً من أهم الملفات المتداولة في المعركة الانتخابية بين الديمقراطيين والجمهوريين، على الرغم من أن الحزبين متفقان على أولوية مساعدة أوكرانيا، لأن خسارتها الحرب يعني خسارة الولايات المتحدة وأوروبا وحلف «الناتو».
ثم أن الولايات المتحدة لن تترك كييف في هذا الوضع الصعب، لأن تركها سيعني فوراً الانتصار الروسي السريع عليها، وكل ما في الأمر أن واشنطن تقسم هذا العبء العسكري والاقتصادي على الدول الغربية وتجعلها تشارك في دفع فواتير هذه الحرب. هذا أساساً إذا لم تكن واشنطن تغطي تكاليف هذه الحرب عبر نجاحها في إدارة ملف الطاقة التقليدية عبر بيع الغاز لحلفائها من الدول الغربية بأسعار مرتفعة.
ربما استخلص الأوروبيون العبر من هذه الحرب، أن أوروبا وحدها غير قادرة على مواجهة روسيا وأن الأمر يتطلب إيجاد تغييرات جذرية في العقيدة العسكرية الأوروبية نحو تقويتها، والأمر يحتاج إلى سنوات طويلة، أو التمسك بالحبل السري الذي يربطها مع الولايات المتحدة، وعلى الأرجح أنها ستبقى تحت الغطاء الأميركي إلى أجل غير معلوم.