في ثقافتنا الشعبية تُصنَّف المهن إلى مستويات، بحيث تعطي للطبيب والمهندس موقع الصدارة في الاحترام، بينما تضع مهن الخدمات في قاع السلم، وبدون أي احترام ! وهذا التصنيف الطبقي يعود إلى موروث ثقافي موغل في القِدم، ربما يعود لعصور العبودية والإقطاع، وينطلق من نظرة مشوهة تجاه العمل، وقيمته، بل وقيمة الإنسان نفسه .. في مقولة منسوبة لعمر بن الخطاب: "أرى الرجل فيعجبني، فإذا قيل لي لا صنعة له سقط من عيني"، بمعنى أن الإنسان العامل يجب أن يُحترم أولاً لأنه إنسان. في البلدان المتحضرة ينظر المجتمع والقانون تجاه المواطن نظرة متساوية عادلة، مهما كان نوع عمله، وتحترم العمل بحد ذاته ولو كان بسيطا، ولا يتطلب قدرات ذهنية عالية. وحتى المواطن المتعطل تسعى لمساعدته بإيجاد فرصة عمل لائقة. كثيرا ما يشد انتباهي منظر بعض الأطباء في المستشفيات، وهم يدخلون قاعة الانتظار المليئة بالمراجعين، فلا يلتفتون إليهم، وربما في قرارة أنفسهم ينظرون نحوهم بإشفاق وتعال، وإذا ابتسم أحدهم لمريض، أو تحدث مع الموظفين الآخرين فإنه يتوقع منا منحه جائزة في التواضع !! طبعا البعض يبرر هذا السلوك باعتبار أن مهنة الطب بالغة الحساسية والأهمية لحياة الناس، وبالتالي من البديهي أن يكون راتب الطبيب ضعف راتب الممرض، ومن البديهي أن يتعامل معه بفوقية .. رغم أن حياة المريض تكون معلقة بنوعية الخدمات والرعاية التي يتلقاها من الممرض، ورغم أن دراسة التمريض صعبة وتحتاج مجهودات جبارة. وفي مقاربة مشابهة؛ كانت الحكومة قد أقرت في وقت سابق علاوة "طبيعة العمل" لكل من المهندسين والمهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين لتصبح 90%، ثم عادت في اللحظة الأخيرة، وخفّضت العلاوة للمهندسين الزراعيين إلى 60%، الأمر الذي رفضته النقابة، وأعلنت عن استعدادها لخوض نزاع عمل.
وربما كان في ذهن صناع القرار أن المهندس مهما كان تخصصه أهم من المهندس الزراعي !!
في بعض البلدان يصفون المهندس الزراعي بتهكم أنه "فلاح مثقف" .. لأن البيئات البدوية تزدري الزراعة، في حين أن الزراعة يمكن أن تكون عصب الاقتصاد ورافعة التطور لأي بلد، فمثلاً، نجحت هولندا بفضل المهندس الزراعي في أن تصبح أكبر منتجي الألبان والأجبان في العالم، وتضع اقتصادها في المراتب الأولى، بثروة حيوانية تقدر بمليون بقرة فقط، علما بأن السودان لديه 30 مليون بقرة، وشعبها يعاني المجاعة.
في فلسطين، لدينا خيرات زراعية واعدة، وقبل ذلك، تلعب الزراعة دورا وطنيا بالغ الأهمية في الصمود ومواجهة الاستيطان.
البعض يعتبر أن مستوى "طبيعة العمل" والعلاوات التي يستحقها، ونظرة المجتمع تجاهه تعتمد على مدى أهمية هذا العمل، وأثره على المجتمع، فإذا كان كذلك؛ من يقرر أن التاجر أهم من المزارع ؟ ومن يقرر أن المحاسب أهم من الحلاق ؟ أو أن المحامي أفضل من النجار ؟ ولماذا ننظر لعامل البناء نظرة دونية ؟! ولماذا عامل النظافة يتقاضى مرتبا أقل ما يقال عنه أنه سخيف ! فإذا أردنا أن نعرف أهمية أي عمل، لنتخيل مثلا لو أن عمال النظافة أضربوا عن العمل أسبوعا واحدا .. مثال آخر يكشف زيف النظرة المشوهة لطبيعة العمل: المعلم، مربي الأجيال، الذي على عاتقه تقع مسؤولية إعداد النشء .. يتقاضى راتبا هزيلا، والأنكى من ذلك، أنه فقد حظوته ومكانته الاجتماعية التي كان يحظى بها سابقا. وفي سياق متصل يكشف جانبا آخر من هذه النظرة المشوهة، سنجد أن المربيات في حضانات الأطفال يتقاضين راتبا مخجلا، أقل من 700 شيكل !! وهي مهنة في غاية الأهمية، لأن أرواح أطفالنا بين أيديهن.
وهذا يعود للنظرة الدونية للمرأة، حيث تشير إحصائيات أن المرأة (على مستوى العالم) تتقاضى راتبا أقل بِ 25% من راتب الرجل في نفس الوظيفة، ولا تشغل سوى أقل من 25% من الهيئات القيادية في أماكن العمل !! في إحدى السنوات حظيتُ بفرصة زيارة شركة سوني اليابانية، في استراحة الغداء شاهدتُ رئيس مجلس الإدارة يقف بالطابور مع الموظفين لتناول وجبته، ولولا أنهم قالوا لي ذلك هو صاحب أهم شركة في العالم لما عرفته، والأهم من ذلك أن راتبه يزيد فقط خمسة أضعاف عن راتب أقل موظف في شركته .. في بلادنا الفروقات في الرواتب في نفس الوزارة أو في نفس الشركة تصل إلى عشرات أو مئات الأضعاف !!
وأعرف وزيرا كان حتى قبل أن يصبح وزيرا لا يسمح لأحد بالصعود معه في المصعد !! وعندما صار وزيرا جعل لمكتبة باب إلكتروني ربما تعادل تكلفته راتب خمسة موظفين !! ومن المخجل إجراء أي مقارنة مع "برستيج" هذا الوزير وغيره مع "برستيج" رئيس وزراء هولندا الذي يصل مكان عمله عَ"البسكليت" !! طبعا هذه الممارسات تأتي انعاكسا للنظرة المريضة لقيمة العمل، بحيث يعتبر الوزير أو المدير العام أنه أهم (وبالتالي أفضل) من الموظف الأقل منه درجة، وهذه تنعكس مباشرة على الامتيازات التي ينالها كل موظف بحسب درجته، لا بحسب احتياجاته الوظيفية والإنسانية.
مثلا لموظفي الفئة العليا كافة الامتيازات، بينما "المراسل/ة" الذي ربما يتعب أكثر من الوكيل، لا يجد كرسيا ليتقط عليه أنفاسه ! وهذا التشوه جعل من البعض حين يتبوأ منصبا مهما (نائب في البرلمان، أو وزير ..) بأن يصبح جل تفكيره منصبا على كيفية الاستفادة من مزايا المنصب، وبالتالي آخر همه كيفية خدمة المجتمع .. وعلى مستوى آخر جعلت القوانين تنظر للمواطنين بازدواجية تعوزها العدالة، والأسوأ من ذلك كله، أنها جعلت المجتمع نفسه يتقبل هذه النظرة الفوقية الطبقية التي تفتقر للإنسانية، وتسيء لقيمة العمل.
على الدول التي تحترم مواطنيها أن تصيغ قوانينها بحيث تكفل الحد الأدنى للأجور الذي يضمن حياة كريمة لكل مواطن، ثم بعد ذلك تضع أنظمة العلاوات استنادا لأسس علمية مهنية، ووفق معاير واضحة ومحددة .. أما المجتمع، فلن يتطور إلا إذا اعتبر أن رئيس الدولة مجرد مواطن يؤدي دورا وظيفيا معينا، مثله مثل "شوفير الباص"، أو بائعة البقدونس على مدخل الحسبة .. كلهم مواطنون لهم نفس المشاعر الإنسانية والاحتياجات اليومية .