يبدو جلياً أن الاصرار على المكابرة ورفض مجرد التوقف أمام الأسباب التي أوصلت السلطة إلى ما هي عليه من عزلة شعبية، ومعها قضية شعبنا من مخاطر جدية، وضعتها فريسة لمخططات التصفية. هذا الانزلاق هو النتيجة الطبيعية لاستراتيجية استرضاء المحتل، والتي مكنته من مواصلة مخططاته لانتزاع واحتواء عناصر القوة الفلسطينية واحداً تلو الآخر، وبأيدٍ فلسطينية من على ضفتي الانقسام، حيث باتت هذه الاستراتيجية للأسف خاضعة لحسابات المصالح الشخصية والفئوية على حساب المصالح والحقوق الوطنية.
فالسقوط في فخ الانقسام، واستمراء اللهاث خلف سراب فتات الاحتلال، والتضحية بالوحدة الوطنية، شكل الضربة القاصمة للحركة الوطنية ومشروعها الوطني التحرري. والسؤال الذي يجب أن يوجه للمهيمنين على المشهد هو ماذا ينتظرون من أجل التراجع عن مشروعهم لهندسة مستقبل النظام السياسي من خلف ظهر الإرادة الشعبية، التي عبرت عن نفسها في أكثر من موقف أبرزها مسيرات منتصف ليلة الخميس "23 شباط/ فبراير"الماضي رداً على مجزرة البلدة القديمة في نابلس وصفقة سحب مشروع القرار ضد الاستيطان من مجلس الأمن، حيث شكلت هذه الاستجابة نقطة تحول تُنبئ بمرحلة جديدة في مسار الحركة الوطنية ومستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
سحب مشروع قرار مجلس الأمن ضد الاستيطان كانت بمثابة الانسحاب المجاني ليس فقط من ما كان يتم الترويج له تحت عنوان "معركة تدويل الصراع"، بل، وبما يحمل في طياته التخلي الطوعي عن سلاح الشرعية الدولية في مواجهة حرب الاستيطان والمستوطنين التي تخوضها حكومة نتانياهو، سموتريتش، وبن چڤير. هذا بالإضافة لما ولدته هذه الصفقة من تغطية على حكومة المستوطنين وإزالة حرج التعامل معها من أوساط عربية ودولية واسعة. هذا الخضوع الذي قوبل بمجزرة نابلس، هو الذي شجع ويشجع المستوطنين لإعلان حربهم على الوجود الفلسطيني، وهو الذي يفسر الوهم بأن نتانياهو قد يفكك ائتلافه الاستيطاني. فالمخطط الإسرائيلي الذي استهدف استكمال تفكيك المشروع الوطني والحركة الوطنية برمتها، بما في ذلك حركة فتح نفسها، وليس فقط الانقضاض على المجموعات المسلحة وثقافة المقاومة، أوشك على تحقيق أهدافه .
إرهاب المستوطنين يتم بحماية حكومة وجيش الاحتلال، وميليشيات المستوطنين هي جزء لا يتجزأ من منظومة الاحتلال العسكري. فالكاهاني وزير ما يسمى بالأمن القومي ذاته كان وما يزال جزءاً من عصابة المستوطنين التي وقفت خلف جرائم حرق الطفل أبو خضير حياً وحرق عائلة دوابشة، هو اليوم مكلف رسمياً في إطار حكومة الاحتلال والاستيطان بانشاء ما يسمى بالحرس الوطني من غلاة المستوطنين، وهؤلاء لن تردعهم أية تفاهمات، والتي هي ليست سوى مجرد وصفة سحرية لمزيد من ربط مصالح أصحاب نظرية هندسة النظام الرسمي الفلسطيني ومنظومته الأمنية بالمصالح الأمنية والاستراتيجية الإسرائيلية، وللمزيد من عزلة هذا النظام عن شعبه للمضي قدماً نحو الاستفراد بها، وبما يشمل محاولة إشعال حرب أهلية فلسطينية داخلية، في وقت تتصاعد فيه حرب المستوطنين ضد الأهالي في مختلف أرجاء الضفة الغربية، وربما كي تكون قوات الاحتلال هي "قوة الفصل" لهذه الحروب، لإعادة تقديم حكومة الاحتلال وكانها "المخلص والوصي" على أمن وسلامة المدنيين الفلسطينين من أنفسهم ومن "شغب"...مجرد شغب المستوطنين، كما حاول الإعلام الإسرائيلي الموجَّه والمُضلّل أن يظهر صورة جريمة حريق حوارة بإنقاذ جنود الاحتلال لإمرأة مُسنّة بعد أن أكلت النيران بيتها.
الدفاع عن النفس هو المهمة المقدسة وليس التنسيق الأمني، وإذا استمرت السلطة في إزاحة نظرها عن هذه الحقيقة التي وجدت منذ خلق الكون والحياة عليه، فليس أمام الشعب الفلسطيني سوى الإمساك بهذا المبدأ الانساني والقانوني كبوصلة تحكم سلوكه وعلى أساس ذلك اعادة صياغة استراتيجياته وبناء حركته الوطنية ومشروعه الكفاحي التحرري.
نحن اليوم أمام استحقاق تاريخي لمواجهة عصارة الفكر الصهيوني الاستعلائي العنصري الذي لا يرى ولا يعترف، ليس فقط بالحقوق الوطنية الفلسطينية، بل وبالوجود الفلسطيني في هذه البلاد. ولعل نقطة البدء هي بوضع حد مرة وللأبد لكل سياسات التفرد والانفراد بالمصير الوطني، واستعادة القضية الوطنية في إطار المؤسسات الوطنية الجامعة وعلى أسس ديمقراطية.
لطالما جرى الحديث عن انتفاضة جديدة أو انفجار كبير، في وقت أننا بتنا في وسط اللهب الذي يهدف لحرق قضيتنا و تصفية وجودنا، وما يفرضه ذلك من مهمات الدفاع عن النفس وصون وحماية الوجود الفلسطيني في هذه البلاد، وتوفير كل مقومات الصمود الوطني له. ولعل الأنظار تتطلع اليوم إلى كل المخلصين من أبناء وبنات شعبنا كي يستعيدوا دورهم في التصدي لهذه المهمة التاريخية، وتجنُب أي انزلاق نحو الصدام الداخلي.
إن إنجاز هذه المهام يستدعي المبادرة الفورية لبلورة الأطر والآليات القادرة على تحويل الإرادة الشعبية المتعاظمة إلى خطة عمل ومهمات متكاملة في إطار لجان أهلية للحماية والدفاع عن النفس والأرض والممتلكات، ولجان للتضامن والتكافل مع أصحاب الممتلكات والبيوت المهدومة والمحروقة وصولاً إلى لجان التوجيه والإنقاذ الوطني من أجل استعادة المؤسسات الوطنية والحكومية من براثن سياسات التفرد والهيمنة والانقسام التي تفتك بقضية شعبنا وحقوقه الوطنية، والنهوض باستراتيجيات عمل موحدة تعيد لهذه القضية مكانتها وتصون التضحيات الكبرى التي قدمها ويقدمها شعبنا في كافة أماكن تواجده تحت رايات الحرية والوحدة والديمقراطية.