ليس التصعيد المتزايد في الأسابيع الأخيرة في الساحة الفلسطينية وفي مركزه العمليات القاسية في القدس وفي الضفة غير مسبوق في خطورته ومزاياه. ومع ذلك فانه ينطوي على جوانب تعكس سياقات عميقة – سواء في إسرائيل أم في أوساط الفلسطينيين – توفر قوة للاطلاع على سيناريوهات رعب يحتمل أن تتحقق في المستقبل غير البعيد. ينشأ التصعيد اليوم في أعقاب لقاء بين عنصر يعيش ضعفا متزايدا (السلطة) ولاعب اقوى (اسرائيل)، غارق في عاصفة داخلية شديدة ويصعب عليه ان يتخذ سياسة مرتبة، بينما تعتمل في الوسط ساحة شديدة القوة تملي الوتيرة ومسار الأحداث، وتتجه نحو مواجهة جبهوية شديدة.
تشكل العمليات الاخيرة تواصلا لموجة التصعيد التي سادت هنا منذ نحو سنة (منذ رمضان الماضي). قسم كبير منها يقوده شبان يعملون بشكل مستقل او في اطار خلايا صغيرة ومنظمات محلية، مثل "عرين الاسود" في نابلس الذين يحرصون على الامتناع عن التماثل مع احد الفصائل فما بالك مع السلطة؟ يدور الحديث عن تعبير عن ميول عميقة اجتماعيا وعلى رأسها صعود جيل الـ Z الفلسطيني الذي ولد بعد العام 2000. يشعر هذا الجيل بانقطاع عميق عن معظم مصادر المرجعية حوله وباغتراب تجاه القيادة وشعارات الماضي، وهو متأثر عميقا بمجال العنكبوتية الذي يشكل له في الوقت ذاته وسيلة تعبير وأداة تغذية فكرية.
بدون راشدين مسؤولين
خطورة التهديد، الكامنة لدى منفذي العمليات الافراد أو الخلايا المحلية، أقل ظاهرا مقارنة بالشبكات العسكرية المؤطرة كشبكات "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، لكن هذا النموذج يطرح تحديا قاسيا امام إسرائيل. فمن الصعب أكثر على محافل الاستخبارات ان تشخص مؤشرات أولية لقسم من الاعمال أو تضرب بنى تحتية ذات مبنى تنظيمي غامض لا يعتمد دوما على مراتبية ثابتة. يؤكد الامر عدم الجدوى في الدعوات للعمل على "سور واق 2 " وبالتأكيد في شرقي القدس – خطوة مختلفة جوهريا عن المعركة قبل عقدين (الانتفاضة الثانية وحملة "السور الواقي") التي وقف فيها امام إسرائيل عدو محدد وواضح.
يوفر الضعف المتزايد للسلطة خلفية تسمح او تغذي موجة التصعيد. فالحكم الفلسطيني يحظى بصورة سلبية في الشارع الفلسطيني - وأساساً بسبب مظاهر الفساد، المحسوبية، وانعدام الديمقراطية– كجسم تقوده قيادة كبيرة في السن تبدي عدم ثقة وعدم دافعية لفرض إمرتها على الشارع. على هذه الخلفية نشأت فراغات سلطوية في جنين وبقدر كبير أيضا في نابلس وفي أريحا، تستوجب من إسرائيل نشاطا عسكريا متزايدا. يخلق الأمر احتكاكات عنيفة قاسية، ويشكل مرجلا لتعزيز قوة "حماس" في المنطقة ونشوء فوضى تقودها شبكات محلية تتشكل أحيانا من "زعران" وذوي سوابق يكتسون صورة مقاتلين من اجل أهداف وطنية. ان الاتساع المستقبلي لتلك الفراغات من شأنه أن يستدعي من إسرائيل ان تعنى أيضا بالسكان وأداء صلاحيات مدنية في ضوء العجز المتزايد من جانب السلطة التي من شأنها أن تذوي او ان تضعف من ناحية الأداء.
في مثل هذا الوضع يمكن لإسرائيل أن تساعد بقدر ما على تعزيز وظيفي للسلطة، من خلال دعم اقتصادي او استجابة لطلبات نجاعة أجهزة الامن الفلسطينية مثلا، لكن لا يمكنها بعصا سحرية ان تؤدي الى تغيير دراماتيكي في مكانة الحكم الفلسطيني. تعزيزه اليوم لا ينشأ عن بدء مفاوضات سياسية او سلام اقتصادي (اقوال كانت صحيحة أكثر في الماضي)، بل اشفاء داخلي عميق.
ان الفوضى في المجال العام والسياسي في إسرائيل بعامة وفي داخل الحكومة بخاصة، تعظم اكثر فأكثر احتمال احتدام التصعيد الحالي. في الحكومة يوجد اليوم عمليا أجندتان متنافستان، وعمليا متناقضتان، في الموضوع الفلسطيني: تلك "الثورية" التي يقودها بتسلئيل سموتريتش وايتمار بن غفير وتسعى لاحلال السيادة في "المناطق"، وإزالة السلطة، وتسريع الاستيطان في ظل إعطاء اهتمام محدود للآثار الدولية، الاقتصادية، والاجتماعية لهذه الخطوات؛ ومقابلها النهج السائد لكن المتردد الذي يتخذه رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، والذي ينطوي على تطلع لاستقرار وحفظ ما هو قائم، بما في ذلك تعزيز السلطة في ظل تنسيق وثيق مع لاعبين خارجيين.
نشأت صدوع بين النهجين في أعقاب إخلاء بؤرة اور حاييم والكرم في بنيامين، وقضية الخان الأحمر، والخصام في مسألة تبعية وحدة تنسيق أعمال الحكومة في "المناطق". وأصبح التوتر المتراكم صخرة خلاف كأداء في أعقاب مؤتمر العقبة والذي في اطاره تبلورت تفاهمات بين إسرائيل والفلسطينيين هاجمها بشدة سموتريتش وبن غفير وكذا اعمال الشغب في حوارة التي عكست فجوة بين التنديد السريع والذي لا لبس فيه من جانب رؤساء "الليكود" وبين اعلان سموتريتش عن الحاجة الى "محو حوارة" والذي يعكس فكره بأنه يجب إيقاع الهزيمة بالفلسطينيين في ضوء "عقيدة يهوشع بن نون": إما ان يقبلوا إمرة إسرائيل أو ان يتركوا "المناطق" أو أن يقاتلوا اليهود؛ دون أي بديل رابع من الحوار او الحل الوسط بين الشعبين.
هدوء حتى رمضان وأثناءه
حتى في حالة حكومة "اليمين المليء"، من شأن الموضوع الفلسطيني ان يكون أساس تقويض بوسعه ان يؤدي الى نهاية الائتلاف. كما أن الامر يجسد ان كل الحكومات مهما كانت لا يمكنها أن تفر من الموضوع الفلسطيني، ولا ان تخفيه من خلال "ضمادات" سلام اقتصادي او هدنات امنية. فهذه تتمزق في غضون وقت قصير نسبيا لتؤكد انه بدون نقاش عميق وبدون قرارات حاسمة فان المشاكل الأساس تحتدم ونهايتها أن تتفجر بالمفاجأة في وجه إسرائيل، في ظل الإلزام بتوفير جواب من موقف دون استراتيجيا.
في المرحلة الحالية على الحكومة ان تركز على اهداف متواضعة نسبيا من حيث تحقيق الهدوء حتى رمضان وفي اثناء الشهر ذاته. يمكن للامر ان يتحقق من خلال الالتزام بالتفاهمات التي تحققت في مؤتمر العقبة، وتشجيع السلطة بمشاركة الأميركيين على الدخول الى الفراغات التي نشأت في "المناطق" (دون تطوير توقعات زائدة)، تقييد العقاب الاقتصادي المفروض على السلطة في الأشهر الأخيرة والامتناع عن الحديث عن إزالتها. في هذه المسألة مطلوب الاستيعاب بانه رغم نواقص السلطة الفلسطينية فانها لا تزال أهون الشرور مقابل بدائل الفوضى، السيطرة الإسرائيلية، أو سيطرة "حماس" على قسم من الضفة او عليها كلها. يجب مواصلة اتباع سياسة حذرة وعاقلة في موضوع الحرم "أثبتت" حتى بدونه أنه لا يزال ممكنا أن يتصور تصعيد حاد بين إسرائيل والفلسطينيين. كل هذا، في ظل إيضاحات لا لبس فيها وجلية من نتنياهو حول الأجندة المتصدرة للحكومة، مع التشديد على الرفض القاطع لظواهر محملة بالمصائب كأعمال الشغب في حوارة.
بين هذا وذاك، وفرت أحداث الأسبوع الماضي فهما معمقا لمعنى دولة واحدة بين البحر والنهر. فقتل الشابين الإسرائيليين قرب حوارة وبعد ذلك الهجمة منفلتة العقال للمستوطنين الإسرائيليين على سكان القرية، هي واقع بلقاني من شأنه أن يصبح نمط حياة يومية، عندما تكون مجموعتان سكانيتان ذاتا روايتين قطبيتين ومعاديتين عميقا تعيشان معا في كيان واحد دون فاصل مادي. اذا ما وعندما تجتاز إسرائيل بسلام الأشهر القريبة وربما أيضا يتبلور إجماع داخلي يبدد التوتر الداخلي الشديد، من الضروري ان يبدأ نقاش استراتيجي طويل المدى في الموضوع الفلسطيني قبل لحظة من الوصول الى نقطة اللاعودة التي ينشأ فيها دون تخطيط، وعي او إرادة أيضا واقع الدولة الواحدة.
عن "معاريف"