ثلاثون عاماً إلّا بضعة أشهر، مرّت على توقيع "اتفاقية أوسلو"، والتي شكّلت عنواناً ومضموناً لمرحلة طويلة من الصراع، تستحقّ قراءة مُعمّقة بعيدة عن ثنائية التقييم إمّا أسود وإمّا أبيض.
يحتاج الفلسطينيون في هذه الظروف، إلى أن يُعيدوا حساباتهم، في ضوء التغيرات التي طرأت على جانبي الصراع، وفي ظل الظروف الدولية الراهنة أو المرتقبة.
بنت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية حساباتها في خضّم الانتفاضة الشعبية الكبرى العام 1987، على إمكانية استثمارها لتحقيق هدف إقامة الدولة، وعاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين، باعتباره هدفاً مرحلياً لا يسقط الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، المتروكة للأجيال القادمة.
لم يكن هذا هو الدافع أو السبب الوحيد، الذي يقف خلف الانخراط في مفاوضات أوسلو، فلقد جرت مياه كثيرة في النهر خلال المرحلة التي سبقت ومنها فشل نظام القطبية الثنائية العالمي في تحقيق هذا الهدف، بالإضافة إلى ما أصاب المنظمة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982 وعوامل أخرى.
المنظمة دفعت ثمناً باهظاً، مقابل هذه المراهنة، ومسبقاً حين وافقت على الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، ونبذ ما يسمى "الإرهاب"، وإدخال تعديلات على الميثاق الوطني.
كان النظام السياسي العالمي، ثنائي القطبية قد سقط بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وقد استقر النظام الجديد على السيادة شبه المطلقة للولايات المتحدة، ما يعني التسليم ولو من دون إعلان بمقولة السادات، حين قال إن 99% من الأوراق بيد الولايات المتحدة.
في مقابل رهان منظمة التحرير على إمكانية تحقيق الهدف المرحلي راهنت إسرائيل، على تحويل هذا الرهان إلى فرصة، لإلحاق الهزيمة بالفلسطينيين، وبرنامجهم الوطني وأهدافهم المرحلية، كمحطة وسيطة لحسم الصراع، باتجاه تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمشروع الصهيوني.
وفي الحقيقة فإن رهان الطرفين كل على مشروعه لم يكن مشروطاً بحزب "العمل" الإسرائيلي، أو بمنظمة التحرير، فلعلّ الكل يتذكر مقولة ديفيد بن غوريون الشهيرة: "الكبار يموتون والصغار ينسون".
في المظهر العام فشل الفلسطينيون في رهانهم، بالرغم من كل ما قدّموه، من تنازلات وما أبدوه من استعدادهم لتقديمه من أجل تحقيق ولو جزءا من مشروعهم مقابل ما يبدو أنه انتصار وفوز للمشروع الصهيوني.
تحوُّلات كبيرة وقعت خلال العقود الثلاثة المنصرمة منذ توقيع "أوسلو"، فلقد تغوّلت إسرائيل على الأرض والبشر، وضاعفت الاستيطان مرّات كثيرة، وساهمت في وقوع الانقسام الفلسطيني، وتخلّى العرب أو بعضهم عن "مبادرة السلام العربية"، وانهار التضامن العربي وتشتّت التضامن الإسلامي مع القضية الفلسطينية، فضلاً عن ما حقّقته إسرائيل في مرحلة دونالد ترامب بشأن القدس.
الفلسطينيون قدموا أثماناً باهظة، وبدا وكأن إسرائيل قد وصلت إلى نقطة حسم الصراع، من خلال تجريف الحقوق السياسية للفلسطينيين وقطع الطريق على إمكانية تحقيق تسوية، أو تحقيق "رؤية الدولتين"، فضلاً عن ما حقّقته من اختراقات خطيرة، في المكوّن القومي العربي، حين وقّعت مع أربع دول عربية "اتفاقات أبراهام"، ويحدوها الأمل في انضمام مزيد من الدول العربية الوازنة لهذه الاتفاقيات.
تحوُّل الخطاب السياسي الفلسطيني المتمسّك بالتسوية وتنفيذ القرارات الدولية، نحو تحقيق "رؤية الدولتين"، إلى خطاب علاقات عامّة وشكل من أشكال التعامل المناسب مع المجتمع الدولي بأمل أن يحقق ذلك تغييراً في مواقف الولايات المتحدة وأوروبا المُوحَّدة، نحو الاعتراف بدولة فلسطين، لكن هذا الرهان لم ينجح، ولا يبدو أن له أفقاً.
المجتمع الدولي ظلّ عاجزاً، أو بالأحرى مُتواطئاً مع إسرائيل رغم اعترافه كل الوقت، بعدم شرعية الاستيطان، وتمسّكه اللفظي بـ "رؤية الدولتين"، فلقد ظلت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على التزامها، الثابت والاستراتيجي بالعلاقة مع إسرائيل، دون أن تخجل من سلوكها المُشين بازدواجية المعايير.
كان "حل الدولتين" هو الأفضل لإسرائيل، بما أنه يحبس تطلُّعات الفلسطينيين في حدود الرابع من حزيران 1967، ويخضع لشروطها الأمنية والاقتصادية، ما يطيل في عمرها أكثر، لكن ميكانيزمات تطوُّر المجتمع الإسرائيلي، ونشوة الطبقة السياسية والأمنية، بالتفوُّق وإحراز بعض الإنجازات، ما كانت لتسمح بالموافقة على هذا الحل.
يعتقد نتنياهو أنه يملك الفرصة لاستكمال المشروع الصهيوني بالاستيلاء على ما يُسمُّونه "أرض إسرائيل التاريخية" (يهودا والسامرة).
تشكل الحكومة الإسرائيلية القائمة ذروة التطوُّر الطبيعي للتفاعلات الاجتماعية الداخلية، لتعكس المواصفات الحقيقية للمشروع الصهيوني، بما أنه مشروع احتلالي، إلغائي وإحلالي، عنصري فاشي.
حين ندقّق في ميزان القوى، وإذا احتكمنا لمثل هذا التدقيق فإن إسرائيل دولة قوية، متفوّقة على من حولها، وأن من حولها لم يعودوا مهتمين بخوض حروبٍ معها، ونقصد الدول العربية، أما الفلسطينيون فإنهم لا يملكون ولا تتوفّر لهم الظروف لكسر ميزان القوى بأبعاده الشاملة وليس فقط العسكرية، لكن الأمر لا يتوقّف على هذا العامل.
يبدو أن الرهان الأساسي والحقيقي، اليوم لا يستند، أيضاً، إلى الميزان الديمغرافي، بالرغم من أهمية هذا العامل، وإنما يقوم الرهان على تفاقم التناقضات الداخلية في المجتمع وفي المستويات الحزبية والسياسية والأمنية في إسرائيل.
الفلسطينيون يواجهون خطراً كبيراً، من هذه الحكومة الاحتلالية العنصرية الفاشية، لكن هذا الخطر، لا يمسّ وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وقدرته على خوض الصراع، لكن هذه الحكومة تشكّل خطراً كبيراً وحقيقياً وجودياً على إسرائيل.
لا يمكن اعتبار التحذيرات التي تصدر عن مسؤولين إسرائيليين، رسميين وغير رسميين، بشأن خطر هذه الحكومة على إسرائيل، على أنه شكلٌ من أشكال التحريض على الحكومة، بقدر ما أنه خوف حقيقي بدأ ينتقل إلى حلفاء إسرائيل، وإلى مناصريها والجاليات اليهودية في العالم.
هذا يعني أن القلعة يمكن أن تنفجر من داخلها، فالمُؤشّرات تذهب إلى اتساع دائرة الاحتجاجات على الحكومة، وتصادم الشرطة مع الناس، وربما تظهر ملامح، تمرّد، وعصيان، وإضرابات واسعة، وانسحابات من قبل مستثمرين، واختلالات كبيرة في الجيش والأجهزة الأمنية قد تتدحرج فعلاً إلى حربٍ أهلية.
ومع إصرار نتنياهو وتحالفه على ما يُسمّى "الإصلاح القضائي"، حماية لنفسه، وزملائه المجرمين، وتصعيد التوتر مع الفلسطينيين، وإدارة الظهر، لتدخُّلات ونصائح الحلفاء، فإن الأوضاع تقترب شيئاً فشيئاً نحو تزايد خوف الإسرائيليين على وجود دولتهم، وذلك الهاجس لم يغب عن الكثيرين منهم حتى قبل فوز الائتلاف اليميني المتطرف في الانتخابات الأخيرة، وتشكيل حكومته.
إذا وضعنا كلّ ذلك في الميزان فإن الشعب الفلسطيني لم يُهزم، ولم ينتصر الإسرائيلي، خاصة أن لا خيار أمام الفلسطيني سوى أرضه وحقوقه بينما لدى الإسرائيلي خيارات حملها معه منذ أن وطئت قدماه أرضاً ليست له ولكنّ لكلّ إنجازٍ ثمناً.