مآلات الربيع العربي

مهند عبد الحميد
حجم الخط

قبل خمسة أعوام، وأثناء الانتفاضات الشعبية العارمة في أكثر من بلد عربي، تعاملت الأنظمة المستهدفة مع الانتفاضات، كمؤامرة هدفها خلق حالة من الفوضى وزعزعة الاستقرار في تلك البلدان، وتأثرت أوساط من المثقفين بهذا التشخيص ورددته طول الوقت. 
كان هذا الموقف يشكل غطاءً وتبريراً لرفض التغيير، وبقاء أنظمة الحكم على حالها. 
بعض أصحاب النوايا الحسنة، أقنع نفسه، أو تذرع بغياب بديل ديمقراطي لتلك الأنظمة.
وما أن نجحت الانتفاضة التونسية في خلع رأس الحكم والبدء بالتغيير الديمقراطي، حتى انتقلت العدوى إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين، وبمستوى أقل في المغرب وصولاً إلى اندلاع الانتفاضة في سورية. كانت الشعوب العربية تمور بالسخط والغليان، ومتعطشة للحرية والكرامة والديمقراطية، الأمر الذي دفعها للخروج في انتفاضات واحتجاجات ضخمة، وتقديم التضحيات لتحقيق تلك الأهداف النابعة من احتياجاتها المشروعة ومطالبها العادلة.  
الانتفاضات اندلعت بعفوية، في غياب تنظيمات سياسية تقود العملية، وغياب تنظيمات بوزن المهمة التاريخية الكبيرة للتغيير الديمقراطي. غياب الأحزاب وأشكال التنظيم الديمقراطي، جاء بفعل القمع المنهجي المنظم للقوى الديمقراطية الذي مارسته الأنظمة المستبدة الفاسدة طول الوقت، وأدى إلى تهميش أو احتواء واستئناس وترويض الأحزاب والنقابات والاتحادات الشعبية والمنظمات الأهلية، ذلك التهميش والاحتواء الذي يختلف من بلد لآخر. 
فقد تميزت تونس بوجود نخب نقابية ونسوية وأكاديمية مستقلة نسبياً، تركت بصماتها الإيجابية على الانتفاضة الشعبية، وبمستوى أقل نشطت فئات من الطبقة الوسطى ونخب ثقافية مصرية مكونة من ليبراليين عاشوا في كنف النظام وتمردوا عليه، وهؤلاء حاولوا تنظيم المنتفضين وتسليحهم بشعارات وأهداف. 
وشهدت الانتفاضة اليمنية مستوى محدوداً من التنظيم شاركت به بعض الأحزاب السياسية، وانعدم وجود أي مستوى للتنظيم داخل ليبيا أثناء الانتفاضة، وكذلك الحال في سورية. 
«كعب أخيل» الانتفاضات كان غياب تنظيم سياسي ديمقراطي على دراية بطبيعة النظام المستبد، ويستطيع اتخاذ مواقف وتكتيكات في الوقت المناسب، وينتزع المكاسب ويحتفظ بها، ويفرض مستويات من التراجع على الحكم. 
إنها المشكلة الأكبر للانتفاضات التي حاولت الاستعاضة عن التنظيم بوسائل الاتصال الاجتماعي وبخبرات فنية وإدارية لجيل جديد من الشبان، يفتقد إلى وعي سياسي ومعرفة بالنظام الذي يواجهه، فاعتقد الشبان المنتفضون، أن إسقاط رأس النظام هو كل شيء وأن التغيير يكتمل عند هذا الحد. 
صحيح أن القيادة الشابة أبدعت في فن الحشد وتنظيمه ضمن الحدود السلمية للمواجهة، لكن ومع اشتداد ردود فعل النظام سرعان ما  تضعضعت القيادة الشابة، لجهة الوقوع في ألاعيب الأنظمة من جهة، ونوايا تنظيمات الإسلام السياسي في قطف ثمار الانتفاضات من الجهة الأخرى.  
في غياب قيادة وازنة، وتنظيم سياسي ديمقراطي للانتفاضة في كل البلدان تقريباً، تعرضت الانتفاضات لشتى أنواع التدخلات التي كان هدفها إجهاض الانتفاضة واستبدال أنظمة مستبدة وتابعة بأنظمة تجدد علاقات التبعية. 
لقد أبدت بعض الأنظمة نوعاً من الاستجابة  لجزء من مطالب المنتفضين، بهدف الالتفاف عليها وقطع الطريق على تجذير الانتفاضة، ونجحت في ذلك عندما اكتفت القيادات الشابة بتغيير رأس النظام، وعاد المنتفضون أدراجهم مكتفين بالإنجاز. 
القضية الأخطر أن المنتفضين المفتقدين لتنظيم وسياسات عامة وخاصة، لم يصمدوا أمام ألاعيب الثورة المضادة، وانسحبوا أمامها دون مقاومة، ما أفضى إلى تحالف الثورة المضادة بشكل مباشر وغير مباشر مع أركان النظام القديم في مواجهة خطر استمرار الانتفاضة وتجاوزها لمشكلاتها. 
في مصر تحالف المجلس العسكري مع تنظيم الإخوان وحزب النور السلفي في تعديل الدستور والهرولة إلى الانتخابات. 
في سورية تغاضى النظام عن ضرب «داعش» والمنظمات التي على شاكلتها في الوقت الذي كان يوجه ضربات قاسمة للمنتفضين السلميين. 
وفي اليمن كان الإخوان المسلمين جزءاً من صفقة ضمت أركان النظام، وكانت النتيجة محاولة استبدال نظام مستبد وتابع بنظام مستبد وتابع وأصولي. 
التدخلات الخارجية الدولية والإقليمية، لم تتوان لحظة واحدة إلا وفعلت فعلها مباشرة وعبر وكلاء وأدوات بينها تنظيمات إرهابية. هدف التدخلات هو حماية المصالح والحفاظ على علاقات التبعية السياسية والاقتصادية والأمنية. 
كان للتدخلات الخارجية تأثير مزدوج وخطير: شقه الأول تأييد الانتفاضات الشعبية بالأقوال، وكان ذلك التأييد المترافق مع أشكال الدعم كافياً لتشويه الانتفاضة وقوى المعارضة وحرقها سياسياً، وشقه الثاني استخدم هذا التأييد لإجهاض الانتفاضة، وفرض أشكال جديدة  من السيطرة على بلدان الربيع عبر حلفاء قدماء وجدد، دون استبعاد بقاء النظام بشروط تبعية جديدة. 
أمام هذه التعقيدات المرافقة للانتفاضات، تمكنت الأنظمة المستهدفة بالتغيير، من البقاء وتجديد قبضتها القمعية، متسلحة بوجود مؤامرة خارجية وتدخلات هدفها «تدمير الدولة» و»تقسيم البلد» وتعميم «الفوضى الخلاقة». 
وفي المحصلة النهائية نجحت مقولة تلك الأنظمة وانتشرت في صفوف كل الذين لا يرغبون بالتغيير، تلك المقولة التي لسان حالها يقول: «إن الربيع العربي لم يكن منذ بدايته الأولى ربيعاً، بل كان مؤامرة ارتدت على الشعوب بأوخم العواقب».      
صحيح أن التدخلات بلغت مداها، والثورة المضادة كانت مهيئة أكثر من غيرها لملء الفراغ، والنظام المستبد لا يقبل بتغيير حتى شكل الحكم من ديكتاتوري إلى ديمقراطي، وصحيح أن صوت هذا الحلف المثلث الأضلاع هو الأقوى في هذه الموجة من الانتفاضات والثورات، لكن احتجاج الملايين ومطالبهم المشروعة والعادلة لم تكن مؤامرة، بل ربيع يانع وواعد بالظفر. 
كان ربيع الشعوب العربية أكثر زخم وأهم بكثير من ربيع شعوب  أوروبا الشرقية التي غيرت أنظمة الحكم بجهود أقل بكثير من الجهود السلمية التي بذلتها الشعوب العربية.  
في ذلك الوقت، لم تقاوم أنظمة أوروبا الشرقية إرادة شعوبها بالتغيير وسرعان ما سلمت بالمطالب الشعبية وغابت من المشهد، برغم وجود تدخلات خارجية، أما الأنظمة العربية فلم تعترف بإرادة الشعوب أصلاً، واعتمدت ثنائية قاتل أو مقتول، وشجعت ضمن هذه الثنائية الفاشية كل أنواع التدخل. 
خسرت الشعوب العربية جولات وجولات، وطالما أن الأسباب التي أدت إلى الانتفاض والثورة ما زالت باقية، فإن الاستئناف ما زال متوقعاً، وهذا ما نسمعه في تونس التي أطلقت الشرارة الأولى، ولا شك في أن الاستئناف يرتبط هذه المرة بشكل جديد من التنظيمات الديمقراطية المستقلة، ومن حركات اجتماعية غير افتراضية، ومن وعي سياسي يضع حدوداً فاصلة بين الثورة والثورة المضادة.