هارتس : لن يكون في إسرائيل ديمقراطية مستقرة بدون الفلسطينيين

شلومو زند.png
حجم الخط

بقلم: شلومو زاند

 


من خلال مقالات ومما نعرفه عن السياسيين والمثقفين من مشارب مختلفة في المعارضة يمكن الاستنتاج بأن إسرائيل ستتحول في القريب دولة ديكتاتورية. يهددوننا بالفاشية، ويقومون بمقارنتنا بمجتمع سيتدحرج الى النازية، والأكثر تضلعاً في تاريخ الأفكار يتنبؤون بأننا سنتحول سريعاً ديمقراطية شمولية. ولكن إذا طلب من الجمهور في المسيرات في الشوارع أن يتكتل حول شعارات قصيرة وحماسية، مشحونة بشكل عام اكثر بالمشاعر منها بالمنطق، ففي نقاشات المثقفين ثمة استخدام لمصطلح ضبابي، خليط بين أشياء غير متشابهة وإجراء مقارنة لا أساس لها، فقط تزيد الضحالة وتخصي انتقاد الجانب المقابل، وتقويه على المدى البعيد.
لا شك أن المقارنات مع الماضي تقف في أساس كل تفكير اجتماعي وشخصي أيضا. نفكر بالحاضر بوساطة ما سبق وحدث، حتى لو كنا نعرف جيدا أن التاريخ لا يكرر نفسه. ولكن أمثلة من الماضي يمكن أن تتحول أفخاخاً مضللة وتؤدي إلى الفشل. على سبيل المثال، التحالف النظامي الحالي بين اليمين البيبي واليمين الحالم، الذي يستند اليه، ليس فاشية وليس من شأنه أن يتطور بسرعة الى نازية. الفاشية القمعية، التي أثرت في الواقع على حركات كثيرة في حينه، كانت ظاهرة حصرية في ايطاليا. وسرعان ما قرر متحدثون باسم اليسار، الاشتراكي أو الشيوعي، إلصاق هذا المفهوم بدون أي تمحيص لأي حركة يمينية – قومية متطرفة في القرن العشرين. مثلا، عندما ذهب هتلر لتعزيز قوته ألصق به اليسار صفة الفاشي (هو لم ير نفسه في أي يوم هكذا)، وكان يتوقع أن يتصرف مثل موسوليني. المشكلة أن رؤية القوميات العرقية المركزية للنازية كانت مختلفة كليا عن الرؤية القومية المدنية الشاملة للفاشية؛ لذلك، ضمن أمور أخرى، انتهى تاريخه بغرف الغاز.
رغم محاولات تقليد مثيرة للشفقة للفوهرر (المقر الخاص والأخير لأدولف هتلر قائد الرايخ الثالث، حيث كان يلقب بالفوهرر وتعني بالألمانية الزعيم، وكان هذا الملجأ هو المقر المحصن للمستشارية وقيادة الجيش-المحرر) وحتى 1938 كان الكثير من اليهود في قيادة الحزب الفاشي، وحتى بعد ذلك حرر الجيش الإيطالي اليهود عندما وصل الى معسكرات التجميع التي أسسها الكرواتيون. في الواقع الأمر الذي مكن من وصول الفاشيين والنازيين للحكم هي الديمقراطيات الليبرالية الضعيفة وغير مستقرة تماماً، ولكن يجب تذكر أن معظم النخب الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، سواء في المانيا أو إيطاليا، قررت تأييد الاحزاب الجماهيرية اليمينية، ضمن أمور أخرى، بسبب خوفها من حركات اليسار، وبهذا ساعدتها على شق طريقها نحو الحكم.
في هذه الاثناء تظهر الأغلبية العظمى من النخب في إسرائيل، الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، العداء الحازم للحكم البيبي – البن غفيري، وتظهر الاشمئزاز من الجمهور القومي المتطرف، سواء أكان انقلابياً أم إصلاحياً، الذي يهدد مكانة النخب المحلية. وربما العكس، الضعف الدراماتيكي لتيارات اليسار المختلفة ساهم، ضمن أمور أخرى، في صعود الاستبداد شبه الهستيري لسياسيين وقحين وعديمي المسؤولية، يردعون حتى أعضاء اليمين المعتدلين.
اذا لم تتدهور "الديمقراطية اليهودية" الى فاشية أو نازية، فهل ربما ستتدحرج نحو "ديمقراطية شمولية"؟. هذا المفهوم، الذي يبدو متناقضا، وضعه في 1945 الفيلسوف الفرنسي برتران دي جوفنيل (بالخطأ ينسبون هذا المفهوم ليعقوب تلمون). في السنة ذاتها بالضبط تم تتويج بولندا وهنغاريا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ديمقراطيات شعبية. هذه الدول، مثل الاتحاد السوفييتي قبلها ومثل الصين بعد ذلك، تفاخرت بالتركيز السياسي على مبدأ حكم الشعب، الذي يعمل فقط لصالح الشعب. وفي الوقت ذاته رفضوا كليا أي ميزة ليبرالية – من تعدد الأحزاب، مرورا بفصل السلطات، وانتهاء بحريات الإنسان الأساسية.
هل تتحول دولة إسرائيل ديمقراطية شمولية؟ لا يتنبأ الكاتب ولا يعرف ما الذي سيحدث لإسرائيل في المستقبل. ولكن في هذه المرحلة هذا هو الخطر الأقل منطقية الذي يهدد مستقبلنا. بنيامين نتنياهو هو زعيم فاسد وعديم الكوابح، ولكنه ليس ستالين أو ماو أو تشاوتشيسكو. محاولات تأهيل سياسيين فاسدين بعملية مستعجلة من تقليص الليبرالية القضائية والمس بفصل السلطات وفرض ممارسات دينية أخرى في الفضاء العام هي أمور مقلقة جدا، والمعارضة الجارفة ضدها مشجعة. ولكن يجب عدم الخلط بين هذه الظواهر والشمولية.
تقليص الليبرالية في الولايات المتحدة في فترة المكارثية في خمسينيات القرن الماضي، رغم قبحها، لم يؤد الى نظام شمولي. عندما ذهب تشارل ديغول وتعزز في فترة حرب الجزائر وهدد كيان الجمهورية الفرنسية، خرج اكثر من 1.5 مليون متظاهر الى الشوارع في باريس ورفعوا شعار "الفاشية لن تمر". انتصر ديغول، وليس فقط لم تصبح فرنسا فاشية، بل خرجت مكللة بالعار من الجزائر. كل التخوفات والتهديدات بأن جيرمي كوربن، الرئيس السابق لحزب العمال، سيحول بريطانيا دولة اشتراكية شمولية كانت جزءاً من دعاية غبية لا أساس لها.
لكن حتى لو تم وقف الانقلاب النظامي بشكل مؤقت، فان هشاشة اليبرالية الإسرائيلية مقارنة مع الولايات المتحدة وفرنسا والدول الغربية هي امر بارز ويجب أن تقلق كل مواطن إسرائيلي. هي تشبه من عدة جوانب ضعف الليبرالية في بولندا وهنغاريا وتركيا والهند وتونس، وحتى مؤخرا في البرازيل. والظهور التاريخي لديمقراطية شعبوية غير ليبرالية في هذه الدول هو من سمات العصر، وحتى الآن يصعب توقع الى أي اتجاهات ستتطور. وضعف اليسار في العالم ولد مؤخرا هياكل للأنظمة اقل تسامحا، تريد إلغاء كل صراع اجتماعي وسياسي بأي ثمن، حتى بوساطة تكافل قوي جديد بين الدين والقومية.
كل نظام من هذه الأنظمة الشعبوية توجد له سمات خاصة به، وهكذا أيضا لـ "الديمقراطية اليهودية". فهي تشبه بشكل مدهش دول شرق أوروبا من ناحية المركزية العرقية التي توجد في أساس تعريف قوميتها، لكنها توجد في وضع تاريخي متطرف وإشكالي جدا. اذا كانت الدولة اليهودية بين 1948 و1967 قد ميزت ضد الأقلية العربية التي بقيت في أراضيها بعد النكبة، فانها منذ 1967 وخلال الـ 55 سنة سيطرت على شعب كامل منزوع السيادة الذاتية ومحروم من الحقوق الأساسية، المدنية والسياسية. اظهر العالم الغربي، الذي يشعر بالذنب بسبب الكارثة، التسامح حتى الآن، لكن الاحتلال سمم اكثر فأكثر قواعد الأخلاق الصهيونية التي كانت هشة من البداية. السؤال الأكثر أهمية الذي يجب وضعه امام هذا الوضع التاريخي هو لماذا استمر الاحتلال لهذه الفترة الطويلة؟ لماذا لم تنسحب إسرائيل من الضفة الغربية كما تنازلت عن سيناء وغزة؟ يكمن الجواب بشكل جزئي في أن الضفة الغربية هي "يهودا والسامرة"، أي قلب إسرائيل. كل طالب في مدرسة يهودية في إسرائيل، يتعلم التوراة والتاريخ والجغرافيا، يعرف بأنها شبيهة بالقدس "التي تم توحيدها"، أيضا الخليل ونابلس وأريحا هي "تاريخياً" للشعب المختار.
عندما اقترح وزير المالية والوزير في وزارة الدفاع، بتسلئيل سموتريتش، مؤخرا "محو حوارة" فانه لم يقصد حقاً تدمير السكان فيها. فمع كل الرغبة في إبعاد الفلسطينيين، إلا أن أفكاراً حول الإبادة ستظهر ربما فقط في إطار حرب شاملة. سموتريتش كما يبدو فقط يريد أن تكون حوارة مثل قرية الشيخ مؤنس، رغم أن معظم السكان فيها لم يكونوا معادين للاستيطان الصهيوني إلا أنه حكم عليها بالاختفاء من الخارطة مثل قرى كثيرة أخرى.
كما هو معروف، منح الله "ارض إسرائيل" لـ "الشعب المختار" قبل نحو ثلاثة آلاف سنة. هو في الحقيقة نام واختفى مدة 2000 سنة، لكن في النهاية استيقظ بقوة كبيرة وخطوة تلو خطوة حقق وعده القديم. ليس فقط اتباع سموتريتش وايتمار بن غفير هم الذين يؤمنون برسائل وطنية كهذه، وليس فقط ناخبو نتنياهو، بصيغة اكثر علمانية، لكنها لا تقل اسطورية، أيضا درس الكثير من معارضي اليمين الخالص في المدارس بأن وطننا هو من البحر حتى النهر. هذه العقيدة، مع الشعور بالتفوق اليهودي الذي يتم غرسه في جهاز التعليم، هي عدوة لليبرالية والعلمانية والديمقراطية الإسرائيلية. وهي، ضمن أمور أخرى، سبب ضعفها. ولكن اذا لم يكن بالإمكان تقسيم ارض الوطن، والفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين يظهر أقل احتمالية، فربما من الجدير البدء في التفكير بمنظار جديد للتعايش المشترك. حسب رأيي، لن تقوم قائمة للديمقراطية الليبرالية المستقرة بدون دمج فعال ومساواتي للفلسطينيين في كل إطار سياسي في المستقبل.إذا بدأنا في الموافقة على هذا الدمج فربما لن يكون ذلك مجرد حلم.

عن "هآرتس"