لم تستوعب دوائر القرار في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل بعد الصدمة التي أحدثها الإعلان عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية والاتفاق على تبادل السفراء. والصدمة في الواقع لا تقتصر على الإعلان فقط بل والمكان الذي من خلاله تم الإعلان وهو بكين. والصحف الأميركية الرئيسية تحدثت عن ذهول في واشنطن نتيجة لهذا التطور السياسي الاستراتيجي، بل تحدث بعضها عن إشعال النور الأحمر في العاصمة الأميركية. وهناك من قال إن هذا هو انتقام ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من الرئيس الأميركي جو بايدن. ومهما تكن التحليلات تبدو منزعجة وسوداوية فالإدارة الأميركية لم تعلق رسمياً سوى ببيان مقتضب يرحب بعودة العلاقات بين البلدين الخصمين.
يبدو أن الأمر لا يتعلق بموضوع شخصي يخص ولي العهد السعودي في علاقته الفاترة ببايدن، بل هو أعمق من ذلك بكثير، ويتعلق أساساً بالتطورات الدراماتيكية التي تحصل على الحلبة الدولية منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. وبتشكل شبكة علاقات ومصالح جديدة مبنية على تغيرات مهمة في النظام العالمي، تؤشر نحو تشكل نظام جديد متعدد الأقطاب، لا مجال فيه لهيمنة منفردة للولايات المتحدة على هذا الكون. صحيح أن الإعلان عن عودة العلاقات بين إيران والسعودية لم يحدث بين ليلة وضحاها، وأنه سبق المحادثات الماراثونية في بكين وساطات عربية وخاصة عراقية وعمانية سابقة. ولكن الصين نجحت بجهود جبارة في تذليل كل العقبات التي حالت دون هذا التطور. والصين المعروفة بشراكتها القوية والعميقة مع إيران نجحت في العام الماضي في نسج علاقات شراكة استراتيجية مع السعودية. والجميع لا يزال يذكر الزيارة المهمة جداً للرئيس الصيني شي جين بينغ للرياض والاستقبال الملكي رفيع المستوى له والاتفاقات العديدة التي تم عقدها بين البلدين في مجالات الطاقة وغيرها وأهمها الاتفاق على انشاء مفاعل نووي لإنتاج الكهرباء، والتي أسست للتعاون والشراكة بينهما خلافاً لرغبة الولايات المتحدة التي تريد الحفاظ على حصرية العلاقة والتحالف مع السعودية.
والعلاقات بين واشنطن والرياض تشوبها منغصات كثيرة منها الصفعة القاسية التي وجهتها السعودية للولايات المتحدة بعد رفض زيادة إنتاج البترول في اوبك والتوصل مع روسيا في إطار أوبك بلس إلى خفض معدلات الانتاج على العكس من ذلك. وتأتي هذه الصفعة الثانية لتضرب واشنطن في ملف حساس، خاصة في وقت تحاول فيه الولايات المتحدة وإسرائيل ممارسة ضغوط كبيرة على إيران قد تصل إلى مستوى توجيه ضربة عسكرية لها استبقتها إيران بالاتفاق مع وكالة الطاقة النووية الدولية ثم كان الاتفاق مع السعودية. ولكن يظهر أن الأمير بن سلمان يستشرف المستقبل ويتوقع كما الكثيرين أفول نجم الولايات المتحدة، وبالتالي بدأ في البحث عن التنوع في علاقات بلاده مع القوى الدولية مثل روسيا والصين بما في ذلك الرغبة في الانضمام لمعاهدة «بريكس»، وكذلك إنهاء الصراع الإقليمي مع إيران، والذي من شأنه أن يلقي بظلاله على ملفات مثل الحرب اليمنية ولبنان وحتى سورية.
الحرب في أوكرانيا كشفت ضعف الغرب وخلقت أزمات كبيرة لدى واشنطن وحلفائها الذين ظهروا أنهم ليسوا على مستوى قدرة روسيا على الاستمرار في حرب طويلة استنزفت قدرات حلف الناتو العسكرية واقتصاديات دول الحلف. ولعل ما تشهده الولايات المتحدة من عملية انهيار لبنوك كبرى فيها وهو ما سيؤثر سلباً على الاقتصاد الأميركي وعلى قوة الدولار وعلى الاقتصادات الغربية التي تأثرت فوراً بانهيار أسعار الأسهم لديها مباشرة بعد الاعلان عن انهيار بنك «سيليكون فالي» وكل من «سيغنتشر» و»سيلفرجيت» في أسبوع. ويبدو أن موسكو وبكين بعيدتان عن التأثر المباشر بما يجري في الولايات المتحدة مع أن هذا قد يؤثر على الاقتصاد العالمي عموماً.
الصدمة الإسرائيلية كانت أكبر وخاصة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي كان أهم ما لديه على الساحة الخارجية بناء تحالف عربي سني مع إسرائيل مدعوماً من الولايات المتحدة وربما بعض الدول الغربية ضد إيران. وقد اعتبر التطبيع مع السعودية من أهم أولوياته خلال فترة ولاية حكومته، بل إنه قد أوحى بأن المسألة قاب قوسين أو أدنى. وها هي السعودية توجه ضربة في الصميم له ولمخططاته. فلم تعد إسرائيل تحلم بالمحور العربي المعادي لإيران وإن كانت تسعى للتأثير على الدول الغربية لاتخاذ عقوبات ضد إيران، مع علمها بأنها لن تمر في مجلس الأمن بسبب معارضة روسيا والصين لها. ولكنها تأمل أن تحصل على دعم الولايات المتحدة وأوروبا بفرض عقوبات على إيران بحجة مساعدة روسيا في حربها ضد أوكرانيا.
مشكلة إسرائيل معقدة للغاية، فهي تواجه حرباً داخلية هي الأخطر منذ قيامها، وهذا يؤثر بشكل ملموس على علاقاتها الدولية حتى مع حلفائها وأصدقائها وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وتتعرض لانتقادات شديدة ليس فقط بسبب الانقلاب على النظام القضائي وخلق دكتاتورية جديدة، بل كذلك بسبب التصعيد الخطير ضد الشعب الفلسطيني، وخاصة علميات القتل اليومية وموضوع الاستيطان واستفزازات المستوطنين وهدم البيوت وترحيل المواطنين الفلسطينيين.
وفي ظل هذه الأجواء القاتمة تأتي الصفعة السعودية لتزيد الطين بلة وتحبط الجهود الإسرائيلية ضد إيران. وهذا قد ينعكس أيضاً على الجبهة الشمالية التي ستشهد تسويات وتصالحات ليست في صالح إسرائيل.