عيش عالمنا ظروفاً سياسية ومدنية وإقتصادية وإجتماعية صعبة، وتعصف بنا تحديات ملموسة من شأنها أن تهدد الأمن والسلم العالميين، كل ذلك نتيجة تشكل نظام أحادي القطبية بعد إنتهاء الحرب الباردة، والذي يسعى لتعزيز النفوذ العسكري والإقتصادي والثقافي والإعلامي بهدف السيطرة على النظام الدولي برمته. ومنذ تشكل هذا النظام الأحادي الذي يتغنى بالحريات والدفاع عن حقوق الإنسان بهدف الإستفادة منها كشعارات رنانة لتمرير مشروعه الإستعماري، فقد إرتكب العديد من المجازر والحروب ضد الإنسانية وشعوب بأكملها، فقتل وشرد ملايين البشر في مختلف بقاع الأرض خلال سنوات بسيطة، في فلسطين والعراق وأفغانستان ويوغسلافيا، وغيرهم، من أجل خلق عالم مضطرب وغير مستقر، وبالتالي فرض هيمنته الإمبريالية بدون عناء.
في المقابل، جاءت نشأة جمهورية الصين الشعبية بالتزامن مع تطلعات الشعوب للخلاص من الإستعمار والإحتلال اي كان نوعه ومصدره، فالصين ليس لديها ثقافة إستعمارية أو إمبريالية، فالسياسة الصينية مرتبطة بالأخلاق، والصين منحازة لجانب المظلومين والمضطهدين والمستضعفين، وتسعى الصين لخلق نظام عالمي تعددي أكثر أخلاق وعدالة وإنسانية، بعيداً عن النظام الأحادي الذي تشكل بعد الحرب الباردة. فالسياسة الصينية الحالية قائمة على إحترام الأخر وإحترام ثقافته، وليست ثقافة عسكرية وإمبرالية للسيطرة على الأخرين، وهذا ما يجعل الشعوب مطمئنة وماضية في تعزيز علاقاتها مع الصين.
وإنطلاقاً من تطور السياسة الخارجية الصينية تجاه الأخرين وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث إتسمت هذه السياسة بالإصلاح والإنفتاح، التعاون والتفاهم وتنسيق الجهود، تحقيق الأمن والسلام والتنمية المستدامة، وصولاً لعالم تعددي جديد قائم على الإحترام المتبادل وإحترام سيادة وحقوق الدول وعدم التدخل في شؤون الغير، بصرف النظر عن القوة والحجم والثروة لكل منها، بهدف تحقيق المنفعة المتبادلة والمصير المشترك للجميع دون إستثناء. وعليه، قامت الصين بطرح العديد من المبادرات والأفكار والمقترحات، بهدف تعزيز وبلورة السياسة الخارجية الصينية تجاه الأخرين، بحيث أصبحت السياسة والدبلوماسية الصينية هي عبارة عن "مبادرات" لتحقيق الأمن والتنمية العالميين.
ففي عام 2013 إقترح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة "الحزام والطريق" بهدف تعزيز وتقوية الروابط ما بين الصين والقارات الثلاث: أسيا وأوروبا وأفريقيا، من خلال الحزام البحري وطريق الحرير البري منذ ألفي عام، والممتد من سلطنة عمان للجزيرة العربية، وللبتراء والقدس، وما يتبع ذلك وصولاً لأوروبا، ومن ثم مروراً بمصر للوصول للقارة الأفريقية، عن طريق شبكة من الطرق والموانئ والمطارات ومشاريع البنى التحتية، والمشاريع الإستثمارية في كافة المجالات، وخاصة في مجالي الطاقة والتكنولوجيا. فالهدف من تلك المبادرة والمنظور الإقتصادي والإستثماري الصيني هو تحقيق الإستقرار والتفاهم والتعاون بين كافة الأطراف وصولاً لتحقيق الأمن والتنمية المستدامة من أجل مصلحة الجميع.
فالصين تريد تحقيق التفاهم والتعاون بين كافة الأطراف في منطقة الشرق الأوسط من أجل تحقيق الإستقرار والإزدهار، فهي ترى أن التناقضات والصراعات لا تخدم أحد، فالصين تريد شرق أوسط مستقر ومزدهر ليخدم الجميع وليس فقط الصينيين، وهذا ما يميز السياسة الخارجية الصينية ونظرتها لتحقيق المصلحة المشتركة مع الجميع، فالصين تقدم المبادرات والحلول من أجل تحقيق تلك الغاية. على عكس السياسة الخارجية الأمريكية مثلاً التي تريد شرق أوسط ممزق وضعيف ومترهل، من أجل خدمة مصلحتها ومصلحة حلفائها وفي مقدمتهم إسرائيل، بهدف إحكام الهمينة والسيطرة في المنطقة سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً، دون مراعاة وإكتراث لمصلحة وحقوق الأخرين، وخير دليل على ذلك عدم الإكتراث للحروب والنزاعات في المنطقة، والقيام بدعم الحلفاء بإرسال العتاد والجيوش لفرض سياسة الأمر الواقع، وكذلك تجاهل الحقوق السياسية الفلسطينية وحقوق الشعوب العربية التي كفلتها الأعراف والمواثيق الإنسانية والدولية، والتي لازالت تعاني قهر وظلم سياسة الإحتلال والإستعمار المدعوم من أمريكا وحلفاؤها.
وفي عام 2017، إقترحت الصين مبادرة "النقاط الأربع" بهدف حل القضية الفلسطينية وفق حل سياسي قائم على قرارات الشرعية الدولية، حيث تسعى تلك المبادرة والرؤية الصينية لتحقيق الدعم السياسي لحل القضية الفلسطينية من خلال تعزيز وتجسيد الأهداف السياسية للشعب الفلسطيني، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، وتقرير مصير الشعب الفلسطيني وفقاً للقانون الدولي والقرارات ذات الصلة. فالصين واقعية وضد الإحتلال الإسرائيلي ومع الحقوق الوطنية للفلسطينيين، ومع تقرير مصير الشعب الفلسطيني، فسياستها ثابتة وأخلاقية مع تلك الحقوق، لأنها عانت من الإحتلال وتدرك جيداً ما معنى أن يفقد شعب أرضه ووطنه، لذلك ستبقى الصين مع الحق والعدل وضد الإحتلال والإستعمار في الواقع والحقيقة وليس نظرياً فقط. وترى الصين أيضاً أن القضية الفلسطينية هي مفتاح الأمن والسلام والإستقرار والإزدهار في منطقة الشرق الأوسط، لذلك تعد هذه الرؤية الشاملة بمثابة مسعى جدي وثابت ومستمر من جانب الصين لحل القضية الفلسطينية، وخاصة في ظل الظروف المعقدة التي تعصف بها نتيجة إستمرار السياسة الأحادية للإحتلال الإسرائيلي بإتجاه فرض سياسة الأمر الواقع على الأرض، ورفض تحقيق وتجسيد الحقوق السياسية والسيادية للشعب الفلسطيني، وكذلك نتيجة تجاهل الإدارة الأمريكية لحل القضية الفلسطينية حلاً جذرياً ومواصلة دعم إسرائيل بكل الوسائل. وعليه، تسعى الصين بثبات وفاعلية لإيجاد حل شامل وعادل ودائم للقضية الفلسطينية مع الحلفاء والأصدقاء ومؤيدي الحقوق الفلسطينية، على الرغم من الموقف الأمريكي والإسرائيلي الرافض لحل تلك القضية.
وفي عام 2021، طرح وزير الخارجية الصيني وانغ يي، أثناء زيارته لمصر، جملة من الأفكار والمقترحات من أجل دعم وإنجاح الحل السياسي للقضية الفلسطينية، وأهمها: تعزيز نفوذ السلطة الوطنية الفلسطينية، وتحقيق وتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية. فالعلاقات الصينية الفلسطينية متينة وقوية منذ عقود، وتطورت العلاقات الدبلوماسية وعلاقات التعاون الإقتصادي والتبادل التجاري بين البلدين بشكل ملحوظ وفعال، وهناك تطور في العلاقات الثقافية والإعلامية وتبادل الأفكار والمعلومات أيضاً، لذلك فالدعم الصيني ثابت وفعال بكل الوسائل الإمكانيات المتاحة تجاه المؤسسة الفلسطينية والشعب الفلسطيني. ومما لا شك فيه أن الإحتلال الإسرائيلي يعيق نجاح الدور التنموي والإقتصادي والتجاري الصيني تجاه الفلسطينيين بالشكل المطلوب، لأنه لا يوجد سيادة فلسطينية فعلية على الحدود والمناطق، وما إلى ذلك.
وفلسطينياً، لا يزال الإنقسام الداخلي الفلسطيني يلقي بظلاله على الساحة الفلسطينية، الأمر الذي قد يؤثر على مواقف الدول الصديقة الداعمة لحل القضية الوطنية الفلسطينية في المحافل والمناسبات الإقليمية والدولية، وخاصة أن الصراعات والتحالفات والإستقطابات الإقليمية أصبحت تؤثر بشكل سلبي على تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، في ظل غياب إرادة وطنية فلسطينية حقيقة لتحقيق ذلك.
وفي أبريل عام 2022، إقترح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة "الأمن العالمي" بهدف مواجهة التحديات التي من شأنها زعزعة الأمن والإستقرار في العالم أجمع، والسعي للحفاظ على الأمن العالمي وصولاً للمنفعة المتبادلة والمصير المشترك للجميع، وأهم بنودها: تدعو الصين لضرورة التمسك بالأمن المشترك والشامل والمستدام، من خلال إحترام وحماية أمن وسلامة كل بلد، وذلك بتعزيز التعاون والتفاهم والحوار المشترك، وكذلك إحترام سيادة وسلامة أراضي الجميع، بحكم أن كل الدول اعضاء متساوون في النظام الدولي، فلا يوجد غني أو فقير، ضعيف أو قوي، وأيضاً يجب على الجميع إحترام مبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة، فسياسة الأحادية تتعارض مع تلك المبادئ، لذلك يجب رفضها وعدم التعامل بها، ويجب على الجميع الحفاظ على المصالح الأمنية المشروعة للدول جميعاً، فلا يوجد ضمان لأمن دولة على حساب أمن دولة أخرى، وأيضاً يجب التمسك بالحوار والحل السلمي بين الأطراف كافة، في حال وجود نزاع أو خلاف أو ما شابه، فالحروب والعقوبات ليست طريقة مثلى لحل النزاعات، وأخيراً تلتزم الصين مع الأطراف كافة في المنظومة الدولية بالعمل الجدي لحل كافة القضايا والنزاعات الإقليمية والدولية، بهدف الحفاظ على عالم أمن ومستقر ومزدهر.
بناء على ذلك، سعت الصين وبكل عزيمة وإرادة حقيقية في الحفاظ على "الدبلوماسية الفاعلة" تجاه الخلافات الإقليمية والقضايا الدولية التي لا تزال تلقي بظلالها على زعزعة أمن وإستقرار العالم ككل، ومنطقة الشرق الأوسط بالتحديد.
فعلى سبيل المثال، قامت الصين مؤخراً برعاية حوار سعودي – إيراني في بكين، في الفترة ما بين 6-10 مارس الجاري، وذلك إستجابة لمبادرة من الرئيس شي جين بينغ، بدعوة الطرفين السعودي والإيراني لإستئناف الحوار والعلاقات الثنائية وبناء جسور الثقة والتفاهم، لما فيه مصلحة البلدين والأطراف كافة في الإقليم ومنطقة الشرق الأوسط، وبما يخدم حل لمجمل القضايا العالقة في المنطقة. وعليه، إتفقت الرياض وطهران على إستئناف العلاقات الدبلوماسية الرسمية بينهما بإعادة فتح السفارات والممثليات خلال شهرين من تاريخ توقيع الإتفاق، وتفعيل اللجان من أجل توطيد ومتابعة ما تم الإتفاق عليه، علماً أن العلاقات السعودية – الإيرانية قد إنقطعت منذ عام 2016، الأمر الذي أدخل المنطقة برمتها أنذاك في حالة تناقض وتناحر وصراع بين مختلف التيارات والشعوب والدول.
في المحصلة، نستطيع القول أن الصين تمتلك دبلوماسية ثابتة وفعالة من أجل شرق أوسط مستقر ومزدهر، فالتحالفات بين الصين وتلك الدول قائمة على الإستفادة السياسية والإقتصادية والثقافية والإعلامية للشعوب، وليست أحلافا إستعمارية أو إمبريالية بهدف السيطرة أو المؤامرة على أحد لتحقيق مصالح أحادية على حساب الأخرين، لذلك فالشعوب تقف مع هذه المبادرات الجماعية ومطمئنة لها، لأن الغاية من وراء نشأتها هو محاربة الفكر الأحادي الإستعماري الإمبريالي لصالح الشعوب المظلومة والضعيفة، كالشعب الفلسطيني الذي لا يزال يعاني الإحتلال والقهر والظلم.
فالمطلوب عربياً، أن تسارع الدول العربية لدعم الموقف والدور الصيني في التقارب الذي حصل بين إيران والسعودية برعاية ومبادرة صينية، بهدف خلق أجواء من الإستقرار والهدوء في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة في تلك المرحلة الحساسة التي تعاني فيها المنطقة الكثير من الصراعات والتناقضات والخلافات. وأيضاً أن تقوم الدول العربية بفتح صفحة من الحوار والتفاهم والعمل الجماعي المشترك بين كل الأطراف والأقطاب العربية المتناحرة والمتصارعة، من أجل تهيئة الأجواء لعمل عربي صيني مشترك عنوانه تحقيق "الأمن والإستقرار الإزدهار". وعليه، على العرب إحتضان القضية الفلسطينية من جديد كقضية مركزية وجوهرية في المنطقة، والسعي الجدي مع الصين والحلفاء لحلها وفق القانون الدولي والقرارات ذات الصلة، والمطالبة بتنفيذ مبادرة السلام العربية، ودعوة الكل العربي لعدم نسج علاقات أو إتصالات رسمية أو غير رسمية مع دولة الإحتلال الإسرائيلي على حساب الحق الفلسطيني.
أما فلسطينياً، فالمطلوب إتمام المصالحة الداخلية الوطنية الفلسطينية بهدف تقوية الموقف الصيني الثابت والفعال تجاه حل القضية الفلسطينية، وكذلك البعد كلياً في الرهان على الموقف الأمريكي الذي لا يفرق شيئاً في الفكر الإستعماري والإمبريالي عن الفكر الإحتلالي لإسرائيل. وأيضاً أن تسعى فلسطين فوراً لبناء تحالف إستراتيجي مع الصين في كافة المجالات وعلى كافة المستويات، عنوانه: العمل المشترك والمصير المشترك.
* باحث بالشأن الصيني والعلاقات الدولية / معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة شنغهاي للدراسات الدولية.