"مباط عال" : إسرائيل أمام ثلاث "عتبات" مصيرية: "النووي"، الحرب، و"الهاوية"

حجم الخط

بقلم: أساف أوريون*

 

 



مؤخراً، ازدادت التقديرات التي تشير إلى أن إيران باتت دولة على "عتبة نووية"، وأن القرار وحده هو الذي يفصل بين قدراتها الحالية وبين حصولها على سلاح نووي.
ستحتاج إيران إلى 12 يوماً، بعد اتخاذها القرار، لتخصيب الكمية الكافية من المواد التي تحتاج إليها لصنع أول قنبلة نووية. أما تصميم السلاح وتركيبه على صاروخ أو قنبلة، فسيتطلبان عاماً أو عامين إضافيين. بعد مرحلة العتبة النووية، ستنهض إيران إلى واقع جديد، ستحاول عبوره للوصول إلى الهدف: مظلة نووية تحمي النظام من التهديدات المختلفة، وتسمح له أيضاً بنشر مزيد من العدوانية والتوسع في منطقة الشرق الأوسط، وأبعد منها أيضاً، بالإضافة إلى تهديد وجود دولة إسرائيل.
وبالإضافة إلى التهديد النووي، يمكن ملاحظة المستقبل من مجرد الوصول إلى دولة "عتبة نووية"؛ فالسعودية أعلنت أنه في حال حصلت إيران على سلاح نووي ستسعى هي للتسلح بمثله أيضاً (التفاهمات الأخيرة ما بين طهران والرياض لن تغيّر في ذلك)، والولايات المتحدة التزمت منع إيران من الوصول إلى سلاح نووي، وإسرائيل صرّحت بأنها ستقوم بكل ما هو مطلوب لمنع ذلك أيضاً، وكلتاهما أجرت تدريبات مشتركة، وهما تتجهزان للتعامل مع هذا السيناريو. لذلك، على إيران الحسم ما بين الفائدة المتوقعة من الانتقال بين مرحلة العتبة النووية ومرحلة السلاح النووي، وبين المخاطر التي يمكن أن تواجهها في الطريق إلى الهدف، أو بعده. من طرفها، تتجهز إسرائيل لتستبق السيناريو السيئ، ومن الممكن أن يكون ذلك في المستقبل القريب.
خلال العام الماضي، شهدت الساحة الفلسطينية تدهوراً أمنياً، سببه ضعف السلطة الفلسطينية في أواخر فترة حُكم محمود عباس، وصعود جيل جديد من الشباب لا يعرف الانتفاضة سابقاً، في ظلّ تحريض على الاستمرار في القتال، بالإضافة إلى عدم وجود أفق، وفي ظل طريق سياسي مسدود. منذ عمليات آذار 2022، يدير الجيش حملة مستمرة سُميت "كاسر الأمواج"، لإحباط العمليات. في حين ينفّذ شبان فلسطينيون مسلحون عمليات ضد الاستيطان الإسرائيلي وقوات الجيش، وعلى محاور الطرق، ويهاجمون الجيش في أثناء تنفيذ الاعتقالات. لا تزال القدس مكاناً يستقطب العمليات، والصراع للسيطرة على المسجد الأقصى. حساب الدم يرتفع، وفي إطاره، تتعرض إسرائيل لهجمات صعبة وموجعة، أما الفلسطينيون فدفعوا الثمن من جانبهم بمئات القتلى والجرحى وآلاف المعتقلين، بالإضافة إلى أن التقديرات تزداد بأن الساحة الفلسطينية على أعتاب انفجار واسع عشية شهر رمضان والأعياد اليهودية، قد تتوسّع حلقته إلى داخل إسرائيل كما جرى في أثناء عملية "حارس الأسوار".
اجتمع مجلس الأمن مرتين لبحث التطورات في هذه الساحة، وتدخُّل الولايات المتحدة وحده منع قراراً ضد إسرائيل، وجعل المجلس يكتفي فقط ببيان الإدانة. أما القيادات الأمنية والسياسية للولايات المتحدة والأردن ومصر، فهي مشغولة بجهود التهدئة قبل المواجهات. وحكومة إسرائيل تدفع بسياسة تهدئة وإدارة الصراع من جهة، ومن جهة أُخرى، بسياسة تصعيد تهدف إلى حسمه. وأبعد من العتبة، ينتظرنا تصعيد إضافي أوسع، يتضمن قطاع غزة، وأيضاً ضمّاً واسعاً في الضفة. لذلك، منذ الآن، يمكن رؤية المستقبل في الضفة: زيادة حجم القوات العسكرية، ومذبحة ترتكبها مجموعات يهودية خارجة على القانون في حوارة في الوقت الذي تكون قوات الجيش والشرطة حاضرة غائبة، ومطالبات بحرق القرية تحصل على تأييد وزير كبير (حتى لو تراجع لاحقاً)، وهجمات من المستوطنين ضد الجيش، ودخول وزير وأعضاء كنيست إلى مستوطنة أفيتار، وذلك بعد خرق قرار الإغلاق العسكري.
وفي مقابل هذا كله تعيش إسرائيل في الأشهر الأخيرة زلزالاً سياسياً غير مسبوق، في مركزه عملية تشريع سريعة وعنيفة لتغيير ميزان القوى بين السلطات في الدولة. وتطرح الحكومة هذا كإصلاحات قضائية لإعادة القوة إلى الشعب، أما معارضو الخطوة فيعتبرونه انقلاباً دستورياً لتركيز الصلاحيات جميعها في يدي الحكومة، ويبدأ ذلك بتسييس النظام القضائي، وينتهي بسلطة من دون قيود. تنوي الحكومة استكمال التشريع حتى نهاية الفترة الشتوية للكنيست، وتتقدم بسرعة إلى هذا الهدف الذي ينتظرنا بعده واقع جديد. ومن هنا، يبدو ما بعد العتبة كالآتي: انشقاق داخلي يتوسع، وتراجُع اقتصادي سريع، وعرائض ورسائل تحذير من خبراء اقتصاديين كبار، وقطاع التكنولوجيا العالية الدقة في خطر، وجيش الاحتياط في وحدات رأس الحربة داخل الجيش في خطر، وتحذيرات من يهود الشتات، وحتى من الإدارة في واشنطن، على الرغم من وجود أحد الرؤساء الأكثر وداً لإسرائيل هناك.
حتى اللحظة، الذين يدفعون بالتشريعات إلى ما بعد العتبة يتجاهلون هذا كله، ويتهمون المعارضين بعدم قبول نتائج الانتخابات وبكل الإسقاطات السلبية، ويرفضون التوقف ولو للحظة، بالإضافة إلى أنهم يعتقدون أن المشكلة هي فقط تكمن في عدم التفسير الكافي للخطوات التي يقومون بها.
أصوات قليلة من الائتلاف تطالب بالتمهل في الإصلاحات والدخول في حوار، استناداً إلى المقترح الذي طرحه رئيس الدولة يتسحاق هرتسوغ، ولا شيء يتغير: الاندفاع نحو العتبة التي بعدها تنتظر إسرائيل الهاوية.
وخارجاً، يجلس أعداء إسرائيل، من طهران حتى بيروت، ويستمتعون. قامت الدولة الصهيونية على نفسها بعاصفة انتحارية، وهناك تصدعات في صفوف جيشها الكبير، وتهدد فاعليته، وقواته منشغلة بالساحة الفلسطينية وغير متفرغة لتتجهز للحرب المقبلة المحتملة في لبنان، واقتصادها يتراجع، وكذلك الدعم الدولي لها الذي يتراجع أيضاً. قنوات البروباغندا التابعة لـ"محور المقاومة" بدأت فعلاً بحملة "بيت العنكبوت"، التي تشدد على ضعف المشروع الصهيوني، والأمين العام لـ "حزب الله"، السيد حسن نصر الله، يتنبأ بزوال إسرائيل قبل عامها الثمانين. تعالي أعداء إسرائيل لا يبشر فقط بالمدى البعيد، إنما يشير إلى خطر حقيقي: رغبة متزايدة لدى الأعداء في المخاطرة والذهاب إلى العتبة، التي ستكون نهايتها سوء التقدير والحرب. وللتذكير، نقول إن حرب لبنان الثانية، وأيضاً عملية "الرصاص المصبوب"، اندلعتا عن طريق الخطأ، من دون أن يريد الطرفان منذ البداية الوصول إلى مواجهة واسعة.
كل واحد من التحديات الأمنية الخارجية، إيران نووية، أو التصعيد في الساحة الفلسطينية، أو التهديد على الجبهة الشمالية، معقد بما فيه الكفاية ليحصل على تركيز كامل من القيادة في إسرائيل، حيث كل قرار، أو فعل، أو فشل، سيكون مصيرياً عندما يكون الرهان على حياة الكثير من الناس ومستقبل الدولة. ولكن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية - الأمنية [الكابينيت] الذي لا يجتمع أصلاً، توجد فيه قلة من الأشخاص لديها تجربة أمنية كبيرة، وأشك في أن يتمكن أيّ منهم من دراسة عميقة للقضايا الأمنية الموجودة. في أول شهرين من عمر الحكومة تركز بالأساس على الإصلاحات القضائية، ومن المؤكد أن هذا يحدث على حساب التحديات الأمنية التي تواجهنا.
إن الموجود على عتبة الباب يرى واقعاً واحداً، معروفاً ومألوفاً، لكن ما بعده لا يزال مجهولاً، جزء منه واضح أمامنا، وجزء آخر مجهول. عبور العتبة يمكن أن يكون عبر قرار واعٍ، ويمكن أن يكون بالانجراف من دون انتباه. الآن، يبدو أن حكومة إسرائيل تهرول إلى مسار تشريع، وتبذل جهوداً للتوقف قبل تخطّي العتبة في اتجاه تصعيد واسع مع الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه باتت إيران على عتبة النووي، وعشية اتخاذ القرار في طهران، على القدس أن تتخذ قرارات صعبة أيضاً. تُبذل جهود كبيرة لردع إيران عن اتخاذ القرار والتقدم نحو السلاح، لكن القرار في نهاية المطاف سيُتخذ في طهران فقط. أما التصعيد في الساحة الفلسطينية فيتعلق بقرار الطرفين، ولإسرائيل وزن كبير في هذا السياق، في الاتجاهين الجيد والسيئ.
عبور العتبة التشريعية من إسرائيل الحالية إلى تلك التي لا نعرفها في يد حكومة إسرائيل وحدها. في منطقة متعددة العتبات، حيث مصير إسرائيل على المحك، لا يزال التوقف ممكناً، من أجل الحوار والاتفاق، قبل العبور، وقبل هاوية الفوضى.



عن "مباط عال"
ـــــــــــــــــــــــــــ
*باحث كبير في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، والرئيس السابق لوحدة التخطيط الاستراتيجي في الجيش الإسرائيلي.