سألت يوما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، خلال دورته الأولى، ما إذا كان مقتنعا بصدق أن هناك إمكانية لقيام «دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة ومتواصلة وقابلة للحياة فكان رده: «أتفهم نبرة الإحباط في السؤال، ولكن بودي أن يكون لديّ بديل آخر لطرحه. وبما أنه ليس لديّ «الخطة باء» فمضطر أن أعود للحل المطروح وهو الوحيد الذي يمكن أن يطبق وهو حل الدولتين».
قبل أيام سأل الصحافي المعروف محمد كريشان، من قناة «الجزيرة»، السؤال نفسه تقريبا في مقابلة مع الأمين العام أثناء زيارته للدوحة، على هامش «مؤتمر الدول الأقل نموا» فأجاب تقريبا بالكلمات نفسها. بين المقابلتين على الأقل ست سنوات، نقصت الأرض الفلسطينية وزاد عدد المستوطنات والمستوطنين، وجرت برامج تهويد للقدس بما فيها فرض المناهج الإسرائيلية، واستشهد مئات الفلسطينيين، وصدرت عدة تقارير تؤكد أن إسرائيل تحولت إلى دولة فصل عنصري، وتحولت السياسة العنصرية إلى فاشية، وتراجع دور السلطة الفلسطينية، حتى إن أحدا لا يكترث بما تقول، أو تقرر خاصة التهديدات المتكررة بوقف التنسيق الأمني، ودخلت أربع دول عربية خيمة التطبيع الرسمي، بل التحالف مع هذا الكيان، وما زال الدبلوماسيون في الأمم المتحدة، العرب والأجانب على حد سواء، يتعلقون بوهم «حل الدولتين» رغم علمهم بحقيقة الواقع على الأرض ويكررون الجملة نفسها، سواء في بياناتهم في مجلس الأمن، أو بلقاءاتهم الصحافية مع الصحافيين المعتمدين بمقر المنظمة الدولية. لقد تحول هذا القول «نؤيد حل الدولتين» فرصة للتهرب من الإجابة عن أسئلة تتعلق بالوضع الفلسطيني وحقوقه ومعاناته وإحباطاته. فمهما كان السؤال، يجد الدبلوماسي في هذا الشعار بابا مفتوحا للهرب إلى مساحة آمنة يتحدث فيها براحته عن حل الدولتين «وكفى الله المؤمنين شر القتال».
عينات من الردود
سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، عندما سألته هذا السؤال، وبعد أن وضع اللوم على الانقسام الفلسطيني ومحاولات موسكو لجمع كلمة الفصائل، وبعد تبرير علاقاته المميزة مع نتنياهو بوجود جالية روسية كبيرة، وهو المبرر نفسه الذي يطرحه المغرب، وكأن هؤلاء ذهبوا لينشروا السلام والعدل للفلسطينيين، تحداني الوزير وقال لي: أنت أعطني البديل لحل الدولتين، قلت له أنا عليّ أن أسأل ولست معنيا بالإجابة في مؤتمر صحافي. رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد، وبعد أن وضع اللوم أيضا على الانقسام الفلسطيني، ذكّرني بالانقسام في صفوف العرب والمسلمين، والذين يقيم بعضهم علاقات مميزة مع إسرائيل. الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا أولاند، وعندما سألته على هامش الجمعية العامة في سبتمبر 2016 حول تلك المبادرة الفرنسية لعقد مؤتمر دولي في يناير عام 2017، لإيجاد حل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، بحضور 70 دولة أكد أن المبادرة متواصلة وتسعى لتسوية للنزاع على أساس حل الدولتين.
حل الدولتين وهم من سوقته الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وبعض الأنظمة العربية لتسهيل ولوج المنظمة من برنامج التحرير إلى برنامج التسوية
غيرت طبيعة الأسئلة، قلت لعلني أحظى بإجابات أفضل، فبدأت أركز في أسئلتي على حق الفلسطينيين في المقاومة التي يضمنها القانون الدولي، وعلى معاملة إسرائيل كدولة فوق القانون الدولي، وعلى استمرار مفعولية قرارات الأمم المتحدة التي لا تموت بالتقادم، وعلى ازدواجية المعايير حيث أعطتنا الحرب في أوكرانيا فرصة كبيرة للمقارنة بين حالتين فيهما شيء من التشابه عندما يتعلق الأمر بالمدنيين. وقد سألت جميع رؤساء الجمعية العامة منذ عام 2013 عن حق الفلسطينيين في المقاومة، التي ضمنتها قرارات الجمعية العامة. وكنت أشير إلى القرارات التي شرعنت النضال ضد الاحتلال باستخدام «الوسائل المتاحة كافة بما فيها الكفاح المسلح» شريطة ألا يخالف ذلك ميثاق الأمم المتحدة، الذي ورد في أكثر من قرار عن ناميبيا ثم عن فلسطين مثل قرار 3236 لعام 1974. الإجابات كلها كانت تدور حول تأييد حل الدولتين اللتين تعيشان في سلام ووئام جنبا إلى جنب. الرئيس السابق للدورة 76 عبد الله شاهد، من جزر المالديف، ذهب خطوة صغيرة أبعد عندما تذكر قرار التقسيم 181 (1949) والذي طالب بإنشاء دولتين، واحدة قامت والأخرى ما زالت تنتظر. وأنهى حديثه بأنه يؤيد الحل القائم على الدولتين لأن السند القانوني لهذا الحل موجود في قرار التقسيم أصلا.
حرب أوكرانيا
الهجوم الذي شنته روسيا على أوكرانيا يوم 24 فبراير 2022 أعطى فرصة لجميع من يبحث عن ازدواجية المعايير ومنهم، السفير الروسي، فاسيلي نيبينزيا الذي ظل يثير مسألة غزو أمريكا للعراق على بعد آلاف الأميال بحجة تهديد الأمن القومي الأمريكي، فكيف لا يتحرك الاتحاد الروسي إذا كان تهديد أمنه القومي من دولة حدودية قبلت أن تكون منصة إطلاق للدول الغربية. كما أستذكر السفير الروسي غزو أمريكا لفيتنام وكمبوديا وليبيا وصربيا والقائمة تطول. بالنسبة لنا كانت قضية ازدواجية المعايير واضحة وضوح الشمس في تصرف هذه الدول حيال الهجوم الروسي على أوكرانيا والهجومات الإسرائيلية على الفلسطينيين وخاصة غزة، واستهداف المدنيين هنا واستهدافهم هناك، لكن ردود الفعل مختلفة تماما في الحالتين.
السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس -غرينفيلد، أحرجت من سؤال المقارنة بين المقاومة الأوكرانية التي تعتبرها بطولة، والمقاومة الفلسطينية التي تعتبرها إرهابا، وبين تدمير المباني ومحطات القطارات والمستشفيات التي تعتبرها جرائم حرب في أوكرانيا بينما هي «دفاع عن النفس» في الحالة الإسرائيلية. كل الأسئلة أجابت عنها من دون تحضير إلا هذا السؤال. استلت ورقة من ملفها وراحت تقرأ عن موقف بلادها «التي تؤمن بأن الفلسطينيين والإسرائيليين يستحقون القدر نفسه من تدابير الحرية المتساوية، الأمن والازدهار والكرامة. لا ينبغي لأي من الطرفين اتخاذ أي خطوات أحادية الجانب تؤدي إلى تفاقم التوترات وتقويض الجهود لدفع حل الدولتين المتفاوض عليه». السفير الأوكراني نفسه سيرغي كيستيلسا، ضاق ذرعا عندما سألته كيف يجد المبرر القانوني والأخلاقي لموقف بلاده، التي ترفض العدوان والاحتلال والتهجير في بلادها، وفي الوقت نفسه تؤيد العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، الذي يؤدي إلى هدم مبانيه وقتل أطفاله وبناء المستوطنات على أرضه؟»، فقطع السؤال بطريقة عصبية واضحة قائلا: «نحن نؤيد حل الدولتين ولا أريد الكلام عن موقف حكومتي». يتكرر الموقف مع بقية السفراء. سفير ألبانيا ادعى أنه نسي قضية فلسطين عندما عدد العديد من مآسي الشعوب مثل الهزارة في أفغانستان والروهينغا في ميانمار والمعتقلين في سوريا وتغراي في إثيوبيا وغيرها فاعتذر عن عدم ذكر الفلسطينيين بالتحديد. «معك حق نعم الفلسطينيون يعانون. نعم هناك فلسطينيون بحاجة أن تحترم حقوقهم». وعن حق الفلسطينيين في المقاومة مثل الأوكرانيين، هرب إلى إعلان موقف بلاده من حل الدولتين. سفير موزامبيق عند ترؤس بلاده مجلس الأمن، وجلس أمام الصحافة هرب من سؤال حق الفلسطينيين في المقاومة، مثلما قاوم أهل بلاده ضد المستعمرين البرتغاليين، وكما يقاوم الأوكرانيون الآن، دخل فورا إلى موقف بلاده من حل الدولتين.
الحقيقة التي لا يريد أن يعترف بها أحد
لقد وجد الكثيرون من ممثلي الدول شماعة يعلقون عليها نفاقهم. فحل الدولتين وهم من البداية وحتى هذه اللحظة، سوقته الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وبعض الأنظمة العربية لتسهيل ولوج المنظمة من برنامج التحرير إلى برنامج التسوية. وبعدما ولجت هذا الباب بدأ عمل المؤسسة الصهيونية بتدمير أي إمكانية لإقامة دولة مستقلة مترابطة وذات سيادة وعاصمتها القدس الشريف. إنه الوهم الذي ثبتته قيادة التسوية في عام 1988 في دورة المجلس الوطني الفلسطيني التاسعة عشرة في الجزائر، عندما أعلن قيام «دولة فلسطين المستقلة» وعاصمتها القدس الشريف. وها نحن بعد 35 سنة ما زلنا ننتظر الدولة. الحقيقة التي يحاول البعض تهميشها أو إنكارها أن اتفاقيات أوسلو لم تذكر قضية الدولة المستقلة لا من قريب ولا من بعيد. حتى قضايا الوضع النهائي التي أجل البدء فيها لمدة سنتين ثم إنهاؤها بعد ثلاث سنوات، لم تتحدث عن الدولة، بل عن الاستيطان والقدس وحق العودة والحدود. ولم تحدد المفاهيم بدقة ما المقصود بالحدود. الغريب أن الشعب الفلسطيني يعرف كم كلفه هذا الوهم، لكن أصحاب القرار ما زالوا يعممون الوهم بقيام الدولة المستقلة عن طريق المفاوضات، ألم تكف 30 سنة من بعد أوسلو لإقامة الدولة المستقلة. لماذا أقيمت دولة تيمور الشرقية خلال أربع سنوات ودولة جنوب السودان خلال ست سنوات؟ ألم يحن الوقت للاعتراف بالخطيئة وتجميع كلمة الشعب الفلسطيني بكامله حول برنامج جديد متفق عليه، يؤكد وحدة الأرض والشعب والقضية وينتقل لفرض الموقف السليم عبر المقاومة بمعناها الشامل بدل استجداء المجتمع الدولي من على منبر الجمعية العامة: «وين نروح – احمونا».
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي