حاضرنا هو تاريخنا فمن يصنعه؟

حجم الخط

بقلم جواد بولس

ما زال الرأي السائد في أوساط المواطنين العرب في إسرائيل، يجزم بأن الصراع الدائر داخل المجتمع اليهودي لا يعنينا، نحن المواطنين الفلسطينيين، إلا كونه احترابا بين معسكرين يهوديين عدوّين لنا؛ ولذا، فمن المفضّل أن نبقى خارج حلباته وننتظر نهاياته التي ستكون حتما في صالحنا. هكذا تفترض وتتصرف أكثرية الجماهير العربية، وتمضي في ممارسة شؤون حياتها اليومية بروتينية ساذجة، وكأننا نعيش عل كوكب آخر، لا في إسرائيل.
من السهل، كما قلنا سابقا، أن نعدد الأسباب والدوافع التي يوظفها دعاة مقاطعة المشاركة في الاحتجاجات المستمرة في العديد من المدن والمواقع الإسرائيلية؛ وإن كان بعضها صحيحا، من حيث المنطق والحجة، يبقى واجب علينا أن نرى الصورة بكامل عناصرها، وأن نضع جميع المعطيات والعوامل في كفتي ميزان السياسة، لنقرر ماذا يتوجب علينا عمله كضحايا مباشرين للحكومة الحالية؛ فالتذرع، على سبيل المثال، بمواقف رؤساء أحزاب المعارضة العنصريين وعدم رغبتهم، المستفزة والمقيتة، في مشاركة المواطنين العرب وقياداتهم معهم في الاحتجاجات، يندرج تحت باب الذريعة الناقصة، وهي تقول في حالتنا «أجت منهم لا منا «. فهذه المواقف لا تفيد في مثل هذه الظروف الاستثنائية، خاصة أن الذين يرفعون هذه الرايات بيننا لا يقترحون علينا برامج سياسية جدية بديلة، ولا يبادرون إلى خطوات نضالية مدروسة ومبرمجة تضمن تحشيدا شعبيا رضائيا وقادرا على التأثير الفعّال وعلى المثابرة التي هي من أهم عناصر المرحلة. وكما قلنا ونكرر: لا يصحّ ألا نشارك في تل أبيب، بينما نعجز عن إقناع الجماهير بضرورة انخراطها المستديم والخروج إلى شوارع الطيرة والناصرة وكفرياسيف ورهط.
من المحزن ومن المؤسف أن تكتفي معظم القيادات السياسية العربية والدينية ومعظم النخب المنتجة للفكر والضالعة في صناعة الرأي العام، بتشخيص مخاطر نظام الحكم في إسرائيل، ومواجهة تلك المخاطر باللاعمل، أو بالتنظير وبالشعارات العامة الفضفاضة، التي ما فتئنا نسمع بعضها منذ كنّا أولادا نحب الغبار والريح ودردبات الطبول وهي تدق على أبواب العواصم العربية، وحين كنا لا نفرّق بين الحِلم والحُلم، ولا بين الهُوية والهَوية. ومن الغريب ألا يذوّت جميع من ذكرتهم أعلاه مغازي التداعيات الحاصلة داخل المشهد الإسرائيلي، ولا كيف تولد أمام أعيننا لحظة تاريخية لا يمكن أن نهملها، أو نستخف بها، وألا نتفاعل معها. ولا يجوز لنا ألا ننتبه إلى جملة التصدعات الجارية داخل المجتمع اليهودي، التي لم نشهد لها مثيلا، من حيث سعتها أفقيا وعمقها عاموديا، ولا في أي محطة منذ قيام إسرائيل. لقد عرف المجتمع اليهودي صدامات كانت في بعض تجلياتها عنيفة؛ حرّكت بعضها أحيانا صراعات طبقية، أو في أحيان أخرى، صدامات ثقافية بين اليهود الأشكناز والسفارديم، وهم اليهود الشرقيون، أو خضعت أحيانا لتجاذبات بين العلمانيين والمتدينين؛ بيد أنه في جميع تلك الحالات بقيت الصراعات داخل حضن الدولة، لا صراعا عليها، كما هو وضعنا اليوم؛ ودارت رحى جميعها تحت عقد الحركة الصهيونية والإجماع حول ما تعنيه لكل اليهود الصهاينة، وليس كما هو الحال عليه اليوم؛ وجرت جميعها ضمن إقرار بعدم التعرض لجملة من المحرّمات/التابوهات مثل: الجيش، ومكانة القانون، والمنظومة القضائية، ومفهوم الأمن الوطني الإسرائيلي، وما هي العناصر التي ترسم حدوده وتعرّفه؛ هكذا كان طيلة سبعة عقود كاملة، بينما تحولت اليوم جميع هذه المحرّمات، هي بذاتها، إلى عناوين مستهدفة من قبل أحزاب حكومة إسرائيل الجديدة، التي لا تخفي مآربها وخططها تجاهنا نحن المواطنين الفلسطينيين وعموم الفلسطينيين، في حالة نسفها لتلك التابوهات.
أمور كثيرة تحصل، وليس داخل إسرائيل وحسب، وعلينا الانتباه إليها؛ فمتى قاطع النظام الأمريكي ومعه كبريات المنظمات الصهيونية اليهودية زيارة وزير المالية الإسرائيلية، كما حصل، قبل أيام، خلال زيارة الوزير بتسلئيل سيموتريتش لأمريكا؟ وسيموتريتش ليس الوزير الوحيد الذي أعلنت عدة دول غربية أنها ستقاطعهم، ولن تتعامل معهم بسبب إمعانهم بالقضاء على أسس نظام الحكم القائم، وبسبب مواقفهم تجاهنا كأقلية مواطنة داخل إسرائيل، وأيضا بسبب مواقفهم الدموية وسياساتهم العنصرية والقمعية تجاه ابناء الشعب الفلسطيني. فجهات عديدة في دول العالم بدأت تعارض مضامين السياسة الحكومية الإسرائيلية ومخططاتها تجاه الأرض الفلسطينية وممارساتها بحق الفلسطينيين؛ وقد شكل الاعتداء الفاشي الدموي على حوارة محطة مهمة توقّف عندها قادة العالم، لما حملته من نذائر حول «قدرات» هذه الحكومة. وقد تعكس زيارة الممثل الأمريكي الخاص للشؤون الفلسطينية هادي عمرو، إلى حوارة في يوم 28/2/2023 وجها من إمكانيات التغيير المرغوب والمحتمل في الرأي العام الرسمي والشعبي، وفي بعض المحافل الدولية، خاصة إذا تنبهنا لما قاله هادي عمرو وهو على أرض حوارة؛ فبعد تأكيده «إدانة أعمال العنف العشوائية واسعة النطاق من جانب المستوطنين»، أعلن أنهم في أمريكا يريدون «أن يروا محاسبة كاملة ومقاضاة من خلال القانون للمسؤولين عن هذه الهجمات الشنيعة، وتعويضات لأولئك الذين فقدوا ممتلكاتهم أو تتضرروا بطريقة أخرى». قد يشكك البعض بجدوى هذه التصريحات وبجديتها وبفاعليتها، خاصة أن جميعنا يعرف تاريخ الدعم الأسطوري الذي أمّنته وتؤمّنه أمريكا لإسرائيل على جميع الجبهات، واستمرار دعم احتلالها للأراضي الفلسطينية وتغطيتها المثابرة لجميع موبقاتها بحق الفلسطينيين، وعلى الرغم من ذلك يجب أن تحسب مثل هذه المواقف وفق القواعد التراكمية، وهذه تأتي أكلها مع مرور الزمن، شريطة ملاحقتها؛ والأهم انها تتطلب بذل مجهود كبير من الضحية وعدم الاكتفاء بالبكاء أو الاستجداء أو الدعاء وانتظار الفرج من حيث لا ندري. لا أعرف كم من بيننا تابعوا قوائم المجموعات التي أطلقت نداءاتها المعارضة لمخططات حكومة نتنياهو الجديدة. ومن اللافت أن يكون بين هذه الجماعات جهات أجنبية عديدة. من الضروري أن نتمعن في تلك القوائم وفي أسماء أصحابها، ليس لأنها أعربت عن معارضتها وخشيتها من تقويض أسس الديمقراطية داخل إسرائيل، وتأكيدها على أن مخططات هذه الحكومة ستفضي إلى إنشاء نظام ديكتاتوري مرفوض، وحسب، بل كي نتعرف على كمية التأييد والدعم الذين كانت إسرائيل تحظى بهما في الماضي؛ ونعرف كذلك ما هي الجهات التي كانت تؤمّن لها أحزمة النجاة وأغطية الشرعية، رغم ما كانت حكوماتها السابقة تمارسه.

علينا أن نكون جزءا من صنع التاريخ؛ فخياراتنا ليست محصورة إما بدعم رموز النظام القديم والتصفيق لديمقراطيتهم العرجاء، وإما الوقوف على الحياد وانتظار نهاية حربهم

لقد قام موقع «واي نت» الإسرائيلي في تاريخ 17/2/2023 بنشر تقرير تضمن أسماء مجموعة من الجهات التي وجهت نداءاتها لنتنياهو ولحكومته وطالبتهما بالعدول عن تنفيذ مخططهما، وحذرتهما من مغبة استمرارهما بهما، وما سيلحقه ذلك بمكانة إسرائيل في العالم، وإمكانية رفع غطاء الشرعية عن سياساتها، وسحب أبسطة الدعم الممدودة لها منذ سنوات ولغاية هذه الأيام. وأورد التقرير قائمة جزئية باسماء الجهات المعترضة على المخطط ومنها: عريضة موقعة من (400) عنصر قيادي رفيع المستوى عملوا في أجهزة الأمن على فروعها؛ عريضة موقعة من جميع رؤساء «مجلس الأمن القومي» الإسرائيلي السابقين؛ عريضة تضمنت تواقيع أكبر سبعة عشر مكتب محامين في إسرائيل يعمل فيها (3500) محام؛ عريضة موقعة من (300) عالم اقتصاد من بينهم الفائز بجائزة نوبل دانييل كهنمان؛ عريضة موقعة من قبل (50) مديرا عاما في عدة وزارات، خاصة ذات الطابع المالي والاقتصادي؛ عريضة موقعة من قبل (100) من رؤساء ومسؤولين كبار في شركات الهايتك؛ عريضة موقعة من جميع رؤساء الجامعات الإسرائيلية؛ عريضة موقعة من (185) محاضرا كبيرا في كليات القانون؛ عريضة موقعة من قبل (50) بروفيسورا أمريكيا في القانون، بينهم أحد أهم المنافحين الكبار عن إسرائيل هناك وصديق لنتنياهو، ألان درشوفيتس؛ عريضة موقعة من (240) محاضرا في مادة العلوم السياسية في الجامعات؛ عريضة من (13) فائزا بجائزة نوبل في الاقتصاد؛ عريضة موقعة من (200) عالم يُعدون من بين أشهر العلماء اليهود في العالم، من بينهم تسعة علماء حائزون على جائزة نوبل في العلوم؛ عريضة موقعة من (18) قاضيا ورئيسا سابقين في المحكمة العليا الإسرائيلية وعريضة موقعة من (70) قاضيا في المحكمة العليا الكندية، وغيرهم كثر. قد يقول قائل ما شأننا وهذه القوائم؟ فموقعوها في النهاية يعبرون عن خشيتهم من سقوط نظام حكم دولة مارست العنصرية بحقنا، نحن المواطنين في الدولة، ومارست الاحتلال وبشائعه ضد أبناء شعبنا الفلسطينيين، وهذا طبعا صحيح، ولكن لهؤلاء أقول: إذا كان كل هؤلاء يخافون من طبيعة النظام الجديد ويؤكدون أنهم أن يسندوه لأنه سيكون ذا طابع ديكتاتوري وفاشي، فهل من الصعب أن نتصور حالنا وكيف سيعاملنا هذا النظام نحن في إسرائيل وكيف سيعامل إخواننا الفلسطينيين. قد يكون خوفهم على دولتهم، بينما يجب أن يكون خوفنا من «دولتنا» واستعدادنا لمواجهة سياساتها المقبلة.
نحن أمام لحظة تاريخية، وعلينا أن نكون جزءا من صنع هذا التاريخ؛ فخياراتنا ليست محصورة إما بدعم رموز النظام القديم والتصفيق لديمقراطيتهم العرجاء، وإما الوقوف على الحياد وانتظار نهاية حرب اليهود. إنها لحظة علينا أن نحاول فيها، ونحن قادرون على ذلك، أن نرفع، إلى جانب مطلب تحقيق الديمقراطية، شعاري إنهاء الاحتلال والمساواة التامة لنا، وعلينا أن نقنع هؤلاء اليهود بضرورة تبنيهم لهذه المطالب ـ لقد خصصت جريدة «هآرتس» العبرية افتتاحيتها اللافتة قبل ثلاثة أيام لهذا الموضوع- فمن دون ذلك سيخسرون دولتهم التي لم تكن يوما ديمقراطية، وستقوم هنا دولة فاشية سنكون نحن طبعا أولى ضحاياها، وسيلحقنا جميع من صرخ باسم الديمقراطية.
كاتب فلسطيني