في تذكّر غسان كنفاني

تنزيل (13).jpg
حجم الخط

بقلم عاطف أبو سيف

 

 

 

في تذكر غسان استحضار لحياتنا كفلسطينيين.
استحضارٌ واجبٌ لمسيرة حافلة بالعطاء وبالمزاوجة الحقيقية بين كل أشكال النضال.
في تذكر غسان تذكر لفلسطينيتنا، لكل ما يجعل منا فلسطينيين، للألم الذي يعطب قلوبنا كلما تذكرنا البلاد التي سرقها الغزاة منا وظلت لنا، للوجع الذي نحسه ونحن نعيد تركيب حياتنا بعد تيه الشتات القهري، للدمع الذي يسح على العيون ونحن نستذكر أيام الصبا حين كانت القدس حارسة السماء ويافا عروس البحر وكانت عكا بوابته التي لا تخافه وبئر السبع خوذة الصحراء التي تقيها سيوف العدا.
في تذكر غسان تذكر لماضينا ولواقعنا ولما نصبو إليه.
تمثل حياة غسان مقطعاً مهماً من حياة شعبنا. فغسان الطفل ولد في عكا في عام الإضراب الشهير 1936 وعاش في يافا أرض البرتقال الحزين وحمل معه أحلام البلاد حين هجّرت العصابات الصهيونية أهلها وسرقت حتى ماضيهم وذكرياتهم، وكتب عن حيفا رائعته التي ناقشت سؤال الهوية بشكله الأعمق. بذلك جمع غسان بين أهم ثلاث درر في الساحل الفلسطيني. بعد النكبة التحق غسان بالثورة الفلسطينية باحثاً عن استرداد أحلامه ومستقبله.
غسان حكاية فلسطينية بامتياز. حكاية الشاب الذي كرّس حياته لفلسطين، كتب لها وكتب عنها وعمم أدبها ونتاجات مبدعيها وقرأ ما يقول خصومها حتى يفهم عقليتهم العنصرية اللاإنسانية بشكل أوضح كما كتب لأطفالها.
كان غسان موسوعة تنمو مع الوقت، موسوعة تختصر حكايات الجدات وأغانيهن عن ظريف الطول والجفرا والفدائي الأسمر والحبيب الذي طال انتظاره، موسوعة تعرف فلسطين وتريدها.
في تذكر غسان بحث عن هويتنا ونحن ما زلنا نطرق الخزان.
التفكير الدائم في غسان هو تفكير في هويتنا الوطنية التي كان لغسان دور كبير في صونها وتمكينها.
لقد شكلت كتابات غسان في أجناس الأدب كافة علامة بارزة في تطوير الوعي الوطني تجاه سؤال فلسطين الأهم المتعلق بالإنسان والأرض.
من المهم لنا كفلسطينيين أن نتذكر دائماً هذا القلق الذي سكن غسان وشخوص رواياته من أبي الخيزران وأم سعد وسعيد وصفية، القلق الذي جعل منهم فلسطينيين أصحاب قضية.
في تذكر غسان احتفال ببحثنا الدؤوب عن الحياة التي سلبها منا الغزاة.
إن تذكر غسان هو استعادة حية ومستمرة للدور الحقيقي للثقافة الوطنية ولما يجب أن يقوم به المثقف الفلسطيني ولدوره في الدفاع عن قضيته. هو تذكر لشخصية تركت أثراً كبيراً في حياتنا وفي وعينا.
إن الأسئلة التي سألها غسان هي ذات الأسئلة التي ما زالت تدور في دماغنا وكلما مر الوقت أكثر شعرنا أكثر بالحاجة لطرق الخزان حتى نكسر الجدران.
المثقف الذي كرس حياته من أجل أن تظل بلاده حاضرة في كتاباته سواء كانت الأدبية من رواية وقصة أو الصحافية أو عمله اليومي.
غسان كان حالة فلسطينية متكاملة قل نظيرها في تاريخنا الحديث والمعاصر.
الفتى الذي أحرقت أحلامه النكبة رفض أن يستسلم لبشاعة اللحظة وراح يبحث عن لحظته الخاصة من أجل أن يقفز عن سقطات الماضي. وعليه يصعب الفصل بين غسان الكاتب وغسان الفدائي وغسان العاشق وغسان الإنسان. كان غسان حالة متكاملة لا يمكن تفكيكها.
في تذكر غسان قراءة جديدة لحالة متجددة.
لسنا بحاجة للحظة محددة لنتذكر، ففلسطين التي أبقاها غسان في كتابته ما زالت جريحة، ومع هذا تبقى لنا الكثير من أجل أن نقاتل من أجله، من أجل أن تستمر الحياة في سبيله.
إن إحياء ذكرى غسان هو احتفال بهذا الاستذكار الواجب لكل ما يجب أن نقوم به سيراً على دربه وعملاً بوصايا الشهداء الذين حملوا الحياة إلى مصاف الخلود بحثاً عن فلسطين. فغسان مثل كل آباء الوطنية الفلسطينية ثبتوا البوصلة على فلسطين ورفضوا أن يكون هناك طريق آخر، وسخروا كل ما يمتلكون من أدوات من أجل الوصول إلى فلسطين. ورغم عمره القصير زمنياً حيث لم يعش إلا ستاً وثلاثين سنة فإن غسان عاش قروناً في عمق التاريخ وأعماراً قادمة في حيوات المستقبل، لأنه قرر أن يكون على الضفة الصحيحة من نهر التاريخ الخالد.
لا يمكن لنا إلا أن نتذكر غسان. لأن في استعادة غسان ما يغري بالبحث أكثر في مآلات قضيتنا الوطنية وفي استشراف واقعنا العربي.
لم يكن غسان كاتباً يبحر في لجاج الفنتازيا باحثاً عن عالم يصلح للسرد ويصلح لعالم الرواية حيث يصعب الفصل بين الواقع والخيال، كما لم يكن سياسياً يبحث عن عالمه المثالي عبر الشعارات الكبيرة التي لا تصلح إلا لاستهلاك الجمهور، ولا كان صحافياً يبحث عما يغري متابعيه من أجل تزجية وقتهم المستقطع، ولا كان مثقفاً شغوفاً بإبداعات المثقفين وثرثرتهم تتناثر حول فناجين القهوة في صباحاتهم الطازجة، كان غسان مزيجاً غريباً من كل ذلك وكان لا يرى أي جانب من تلك إلا من منظار اسمه فلسطين. فكان روائياً لا يفكر إلا في حياة شعبه ومآلاته بعد حادثة الاجتثاث الرهيبة التي تمت من أجل سرقة البلاد وكان قاصاً يستعيد أرض البرتقال أو غربة المنفى على أسرة الآخرين، وكان يكتب المقال الصحافي أو الدراسة التي تجعل فلسطين أقرب.
وإلى جانب كل ذلك كان سياسياً يفكر في المقاربات التي تجعل يوتبياه أو فلسطينه أقرب.
إلى جانب كل ذلك كان غسان مثقفاً أيضاً من طراز فريد. كتب غسان مستخدماً تيار الوعي والتدفق الحر للأفكار مبكراً، لم تكن الرواية العربية قد عرفت هذا التقليد في الكتابة السردية بعد. صحيح أن غسان جاء من تقاليد عريقة في الكتابة استمدها من ثقافة عربية واسعة إلا أن اطلاعه على الكتابات السردية لجيل رواد الرواية الأميركية أمثال فولكنر أو البريطانية أمثال فرجينيا وولف قد جعل من تقديمه لهذا السرد إضافة نوعية للرواية العربية. كما أن إضاءات غسان على الأدب الصهيوني كانت فاتحة للتعرف على كيف يتم توظيف الكلمة من أجل القتل وسرقة بلاد الآخرين في مقابل تقديمه أيضاً لأدب الأرض المحتلة ليضيء عالماً كان في زنزانة النكبة طوال عشرين عاماً لم يسمع به القارئ العربي.
هذا ليس مناسبة جديدة للحديث عن غسان لأننا لم نتوقف يوماً عن فعل ذلك فغسان دائم الحضور والاستحضار في حياتنا الثقافية والسياسية والوطنية والقومية، لكننا بحاجة للحديث أكثر في كل مرة من أجل أن يظل المصباح مضيئاً في طريق ربما تعتمت أكثر كلما أوغلنا فيها أو إذا نسينا تفاصيلها فنجهلها. من المهم الآن أن نتذكر دائماً أن ثمة مهمة نبيلة للكاتب هي ما جعلته في مصاف الخالدين وأن ثمة مهمة أكثر نبلاً لهذا الكاتب في سياق كالسياق الفلسطيني حيث هناك حكاية يريد الغزاة أن يدفنوها في غياهب النسيان.
جزء أساس من مهمة الأدب أن يتذكر، أن يستعيد، أن يقول، أن يقترح، أن يمسك بجوهر الأشياء حتى حين يلامس قشرة البرتقالة؛ وإلى جانب ذلك أن يحافظ علينا كبشر نحب ونكره ونغضب ونحقد ونخاف ونحلم ونصاب بالخيبة، كما نشقى بالأمل ونُغرم به مع ذلك.

*من مداخلة الكاتب في مؤتمر حول غسان كنفاني عقد في غزة يوم أمس.