كثيراً ما وصفت بنيامين نتنياهو بـ «الساحر» في مقالاتي، وربما أسرفت كثيراً في استخدام هذا الوصف، إلاّ أنني أرى اليوم أني مضطر لاستخدامه من جديد، على ضوء بعض الآراء التي اعتقدت أن هناك العديد من المؤشّرات التي تدل على عدم استقرار حكومته، لجهة تداعيات فشل حكومته في مواجهة الانتفاضة الثالثة، أو بالنظر إلى تهديدات بين وقت وآخر، بالانسحاب من الحكومة من هذا الحزب أو ذاك في الائتلاف الحكومي إزاء اختلاف المواقف حول قضية ما، خاصة وأن هذه الحكومة، ضيقة وغياب نائب واحد عن التصويت يسقطها.
غير أني أرى أن المؤشرات الأكثر تأثيراً على مستقبل حكومة نتنياهو، تكاد تؤكد استقرارها بشكل يثير الدهشة، ويخالف كل المؤشّرات.
فمنذ تشكيل هذه الحكومة في أيار العام الماضي، قبل ساعة واحدة من مهلة التكليف بعد مفاوضات عاصفة مع أحزاب المستوطنين واليمين الديني واليمين المتطرف، وقامت هذه الحكومة اليمينية المتشددة بتمثيل ضيق قوامه 61 نائباً من 120 في الكنيست، حينها وصفت هذه الحكومة، بأنها واحدة من أكثر حكومات إسرائيل هشاشة وعدم استقرار، كما قيل على سبيل السخرية، إن ذهاب نائب إلى الحمّامات والتصويت أثناء غيابه عن جلسة الكنيست سيؤدي إلى سقوطها، وان نتنياهو مضطر إلى توسيع الحكومة إذا أراد لها أن تستمر في غضون أسابيع أو أشهر قليلة.. غير أن ذلك لم يحدث.
أحد المؤشّرات «السحرية» لنتنياهو أنه أبقى أربع وزارات تحت يده، فإضافة إلى رئاسته للحكومة، فقد أبقى بضع وزارات تحت سلطته، في محاولة منه لاسترضاء أحزاب أخرى خارج الائتلاف، خاصة حزب العمل، إلاّ أنه مع الوقت تنازل عن بعض هذه الوزارات لصالح الائتلاف القائم.
نتنياهو الذي عمل رئيساً لحكومات أربع، ثلاث منها متتالية، بات ملكاً متوجاً للدولة العبرية، لكن ذلك جاء بعد نجاحه في إفشال مقصد كل مرشح كبديل له في الحزب الذي يقوده، حزب الليكود، قبل أسابيع اتخذوا قراراً مستغرباً، بعقد انتخابات لرئاسة الحزب، لم يكن هناك أي داعٍ لمثل هذه الانتخابات، بنظر كبار الليكود وصغاره، ومع أن هذه الانتخابات غير الضرورية على الاطلاق تكلف ميزانية الحزب، إلاّ أنه نجح أولاً في إجبار الحزب على هذه الانتخابات، ونجح ثانياً في أن يكون المرشح الوحيد لهذا المنصب، عقدت الانتخابات على الرغم من فوزه بالتزكية، ولم يتجرّأ أحد من كبار عتاة الليكود على منازعته في هذا المنصب الملكي.
قبل أيام، اقتحم المستوطنون المباني التي تقع في حي السهلة في الخليل، باستخدام العتلات، وقاموا برفع العلم الإسرائيلي عليها بادعاء أنه تم شراء هذه المباني من قبلهم من أصحابها الفلسطينيين، إلاّ أن الجيش الإسرائيلي قام بعد يوم من الاقتحام بطرد المستوطنين بقرار حكومي، باعتبار أن الأمر يتطلب حكماً من المحكمة التي بالفعل لا تزال تنظر بشكوى تقدم بها أصحاب هذه المباني... إثر ذلك هدد نواب من اليمين المتطرف في الكنيست بمقاطعة التصويت داخل الكنيست، إذا لم تتراجع الحكومة عن طرد المستوطنين من هذه المباني، ولم يتم إعادتهم حيث أرادوا، وهذا يعني بالضرورة، سقوط الحكومة... لكن حكومة نتنياهو لا تزال حتى اللحظة على موقفها بانتظار حكم المحكمة.
هؤلاء النواب يهددون بإسقاط الحكومة إذا لم تتراجع عن قرارها بشأن طرد المستوطنين، لكن نتنياهو غير آبه بهذا التهديد، وهذا مجال السحر لديه، فهو يعلم أكثر من غيره أن هذه التهديدات غير جدية، ولسبب بسيط للغاية: لا أحد من النواب أو أحزابهم، له مصلحة في انتخابات مبكرة جديدة!! ولكن ماذا عن المعارضة؟ منذ قيام حكومة نتنياهو الرابعة، والحديث يدور همساً مرة، وعلناً مرات عن اشتياق زعيم المعارضة رئيس حزب العمل هيرتسوغ للمقعد الحكومي، حتى لو كان ذلك على حساب احتمالات انشقاق الحزب وتحت سيطرة نتنياهو، ومجاورة نواب اليمين الديني والمتطرف على مقاعد الكنيست.
قبل أيام قليلة، عاد الهرج والمرج والإثارة إلى حزب العمل، بعدما أدلى هيرتسوغ بتصريح أثناء لقائه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بباريس «الآن ليس هو الوقت الملائم لتنفيذ حل الدولتين، إسرائيل وفلسطين» الأمر الذي فتح معركة متجددة داخل حزب العمل، الحزب الأعرق في الدولة العبرية وزعيم المعارضة، باعتبار أن هذا التصريح، مجرّد ولاء وتودد لنتنياهو وناخبيه، ومقدمة ضرورية لفتح الحديث مجدداً حول مشاركة حزب العمل في حكومة نتنياهو، وتهديد إضافي لاحتمالات انشقاق في حزب العمل على خلفية رؤية زعيم الحزب حول «الدولة الفلسطينية» التي ترى أنها هي الحل في مواجهة معارضة وعدم تقبل أحزاب اليمين في الائتلاف الحكومي لهذه الرؤية، التقارب بين رؤية هيرتسوغ كما جاء في بيانه الصحافي، وبين رؤية الليكود وأحزاب اليمين المتطرف في الائتلاف الحكومي، حتى لو لم تهيئ لمشاركة حزب العمل في الائتلاف الحكومي، من شأنها أن تزيد من ضعف الحزب، حزب العمل، والمعارضة، وهو الأمر الذي يزيد من الرهان على سياسة الساحر نتنياهو في المستقبل!!