هل المعارضة الإسرائيلية معنيّة فعلياً بإيقاف ما يطلق عليها حالياً الثورة القانونية؟ سؤال مهم في ظل ما تشهده إسرائيل من أزمة متصاعدة لا يعرف أحدٌ بعد كيف ستنتهي. سبب طرح السؤال هنا، الشواهد على أن المعارضة الإسرائيلية تتعامل مع الثورة القانونية على أنها مجرّد وسيلة توظفها لغاية أهم، وهي إسقاط الحكومة. ومن هنا، اهتمامها بإيقاف الحكومة عن تنفيذ هذه الثورة هو من باب إظهار قدراتها، ونجاحها في مقابل فشل الحكومة في تمرير قوانينها الجديدة.
وعلى الرغم من إدراك الجميع في إسرائيل، حكومة ومعارضة، أن هناك مشكلة حقيقية في عدم الفصل بين السلطات، وأن السلطة القضائية كثيراً ما تتدخّل في أعمال السلطتين، التشريعية والتنفيذية، بما يؤدّي إلى تعطيل عمل مؤسّسات الدولة، إلا أن هذا الإدراك لا يؤدّي، في النهاية، إلى اتفاق الأطراف على حل وسط لهذه المشكلة؛ فالحكومة من ناحيتها تريد إخضاع القضاء لتمرير أجندتها الخاصة، والتغاضي عن قضايا فساد تورّط فيها منتمون إلى اليمين الحاكم حالياً. أما المعارضة، فقد تناست مشكلات المنظومة القضائية، وأصبح تركيزها على أن الحكومة تقود إسرائيل إلى الهاوية.
يبدو تعنّت المعارضة واضحاً؛ إذ إنها ترفض دعوة رئيس الائتلاف الحاكم، بنيامين نتنياهو، وكبار قادته، إلى الحوار "غير المشروط" في القصر الرئاسي، وأن تعرض ما لديها من بدائل لمحاولة إيجاد حلولٍ وسط للأزمة الحالية، لكنها ترفض هذا الحوار، وتشترط تعليق ما تقوم به الحكومة من تشريعاتٍ أولاً، لأنّ من غير المنطقي الالتقاء، بينما تستمر لجنة الدستور في الكنيست في مسارها.
ترى المعارضة أنّ "الائتلاف" ربما كان قد أدرك أنه تورّط في هذه التعديلات القانونية، أو على الأقل في طريقة فرضها وأسلوب تقديمها، وأنه ربما لم يكن يقدّر تبعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل ربما لم يدرك حجم تأثيرها السلبي بشعبيّته، وبحجم تأييد الشعب للاصلاحات القانونية. عبّرت عن هذا التورّط مواقع تابعة لقوى مشاركة في الحكومة؛ مثلما فعلت صحيفة سروجيم الإلكترونية الناطقة باسم الصهيونية الدينية، والتي ذكرت أنّ قوى اليمين التي تقود "الائتلاف" ربما كانت قد انتصرت في المعركة، لكنها قد تخسر الحرب في النهاية. ويتمثل الانتصار هنا بأن الجميع أصبح يتحدّث عن ضرورة إصلاح العلاقات بين السلطات، لكن ثمن التغيير، في مقابل ذلك، سيكون ثقيلاً ودائماً. فخلال الأسابيع العشرة الماضية، تشهد إسرائيل حالة من الانهيار الداخلي، مع تظاهرات مستمرّة يشارك فيها مئات الآلاف، وصدامات مع الشرطة في بعضها، واتحاد للمعارضة... وأصبح السؤال الجوهري: إلى أين تتجه إسرائيل؟
أكّدت الاستطلاعات أيضاً ذلك؛ إذ كشف جديدها أخيراً أن 55% من الجمهور يعتقدون بضرورة إيقاف خطة التشريعات الخاصة بالإصلاحات القضائية، فيما شعبية "الائتلاف" قد تدنّت إلى 56 مقعداً في حال إجراء الانتخابات الآن. ومن ثم لا تريد المعارضة أن تقدّم للحكومة سلّماً للنزول عن الشجرة، وتتمسّك بموقفها الرافض للحوار، ما لم تتوقف الحكومة أولاً؛ وهو ما جاء على لسان رئيس الحكومة السابق، يئير لبيد: "سنتحدّث حين توقف التشريعات"، وكذلك وزير الدفاع السابق، غانتس: "تريدون الحوار، بينما لجنة الدستور تسابق الزمن؟".
في سياق هذا الصراع بين الطرفين، تستغل المعارضة كل الأوراق الممكنة للضغط على الحكومة وإفشالها، ومن ذلك ما يشهده الملف الاقتصادي الداخلي من مشكلات وربطها بقلق المؤسسات الدولية من التعديلات القانونية؛ وقد لوحظ في الأسابيع الماضية هروب رؤوس الأموال إلى خارج إسرائيل، ومن ثم اضطر بنك إسرائيل إلى الاستمرار في رفع معدّل الفائدة بوتيرة متسارعة، وهو ما يؤدّي، بالطبع، إلى ارتفاع الأسعار وجعل الأمور أكثر صعوبة على المواطن العادي ... أمام ذلك، طالب وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بأن يعمل لصياغة حل وسط مع محافظ بنك إسرائيل لوقف رفع الفائدة. واعتُبر هذا الموقف تلميحاً إلى الإضرار باستقلال البنك المركزي، ما يعني احتمالية خفض التصنيف الائتماني لإسرائيل لدى المؤسّسات الدولية، ولذلك صرح سموتريتش بأنه يعارض بشدة أي تصريحات شعبوية قد تهدّد استقلالية بنك إسرائيل.
دفعت هذه المشكلات الاقتصادية أكثر من 260 رجل اقتصاد في إسرائيل، بينهم محافظ بنك إسرائيل الحالي، ومحافظين سابقين للبنك ورجال أعمال كباراً، إلى توقيع بيان جاء فيه: "حتى لو استقرّت الأسواق على المدى القصير، فإن الخبرة المكتسبة من البلدان الأخرى التي تعرض فيها استقلال المؤسسات القضائية والاقتصادية للخطر، تشير إلى توقّع أضرار طويلة المدى على مسار نمو الاقتصاد ونوعية الحياة للمواطنين... وإن الأوان لم يفت بعد لإيقاف القطار قبل الهاوية". ولم يفت البيان أن يربط تلك المشكلات الاقتصادية بما يقوم به "الائتلاف" من تشريعات: "للأسف، التحذيرات التي أصدرناها لم تلق آذاناً مصغية، وما زال الائتلاف مستمرّاً في مقترحاته التشريعية، في تجاهل صارخ للتحذيرات الداخلية والدولية للأضرار التي قد تلحق بالاقتصاد نتيجة ذلك".
الأداء السيئ للحكومة، والتورّط في معارك في غير وقتها، واختيار الطريقة غير المناسبة، عوامل لا تنفي وجود أخطاء كبيرة تكمن في طبيعة النظام الإسرائيلي نفسه، وفي تجاوز القضاء وتدخله في السلطتين التنفيذية والتشريعية. وأوضح مثال أن منصب المستشار القانوني الذي تعيّنه الحكومة، ويشغل صاحبه المنصب مدة واحدة (ست سنوات)، يكون قراره ملزماً للحكومة التي انتخب الشعب أفرادها، بل وهو المخوّل الوحيد لإصدار قرار التحقيق الجنائي بحق رئيس الحكومة؛ السابق أو الحالي، واتخاذ قرار التحقيق الجنائي مع عضو كنيست، بل أن يكون رأيه القانوني مُلزماً للحكومة في ما تُصدره من قرارات طبقاً لأحكامٍ أصدرتها محكمة "العدل" العليا الإسرائيلية في أكثر من مناسبة في أعوام 1991، 1993، 1998. ومن هنا، يحدُث الصدام مع المستشارة الحالية جالي بهرف ميارا، التي تعمّق مواقفها السلبية، تجاه ما تقوم به الحكومة ووزراؤها، أزمة الحكومة وتزيدها تعقيداً، يوماً بعد يوم. وقد بدأت هذه المواقف برفضها الدفاع عن تعيين أرييه درعي وزيراً، ثم انتقادها الثورة القانونية للحكومة، وصولاً إلى إبطال قرارات الحكومة؛ وجديدها أخيراً وقف قرار الوزير بن غفير إقالة قائد شرطة تل أبيب من منصبه على خلفية انتقاد بن غفير أداءه في مواجهة التظاهرات في المدينة. ونتيجة هذه المواقف، يهاجم قادة "الائتلاف" وأعضاؤه المستشارة القانونية التي كان منصبها أحد المناصب المستهدفة في الثورة القانونية، بهدف جعل من يتولى المنصب تابعاً للحكومة، لا معرقلاً لعملها. وقد اتهم بن غفير ميارا بتعطيل عمل الحكومة بسبب ميولها اليسارية، واتهمها عضو الكنيست عن "الليكود"، حانوخ ملبينسكي، بالعمل على إسقاط الحكومة من خلال تلقيها التوجيهات من وزير العدل السابق، جدعون ساعر، الذي عينها في هذا المنصب في فبراير/ شباط 2022 بعد موافقة حكومة لبيد، واعتبر ملبينسكي المستشارة القانونية أداة المعارضة للسيطرة على الحكومة وعرقلة عملها.
وصلت هذه المواقف الصدامية إلى ذروتها بالتهديد بإقالة ميارا على لسان وزير الاتصالات في الحكومة الحالية: "أرى ضرورة إقالة المستشارة القانونية للحكومة، لكن السؤال كيف ومتى؟". وعلى الرغم من أن القانون الإسرائيلي يتيح إقالة المستشار القانوني في حالة وجود خلافات جوهرية ومستمرّة بينه وبين الحكومة، إلا أن الإجراءات تصل إلى درجة كبيرة من التعقيد قد تصعّب هذا الأمر من الأساس... ومن ثم تتصاعد مشكلات الحكومة مع القضاء الإسرائيلي.
لا يهم كثيراً مصلحة الدولة الحقيقية إذاً، فالمعارضة ليست منشغلة بمدّ يد المساعدة للحكومة، فما يهمّها إفشال الحكومة وتراجع شعبيتها، وربما إسقاطها إذا وقع الخلاف بين شركاء "الائتلاف"، في ظل زيادة الضغوط وتوالي التظاهرات اليومية التي تصل إلى ذروتها في أيام العطلات، إضافة إلى ضغط وسائل الإعلام التي تسيطر قوى اليسار والوسط على معظمها، وبالتالي، كلما طال أمد الأزمة وزادت الضغوط على "الائتلاف"، رأت المعارضة ذلك في مصلحتها. أما الائتلاف الحاكم، فلا يقلّ أنانية، ولن يقدّر مصلحة الدولة، ولن يتراجع إلا في إطار حلّ يحفظ له ماء وجهه، ويخرجه منتصراً أمام جماهيره. كلّ ذلك يأخذ إسرائيل إلى الهاوية، في ظل تصاعد عمليات المقاومة وتوالي العمليات الفردية، ووضع اقتصادي ضاغط، وأخبار متناثرة عن استياء أميركي من أطراف الحكومة الإسرائيلية، ومن محاولة المس باستقلال السلطة القضائية، واتفاق سعودي إيراني جاء ليضيف إلى مصائب حكومة نتنياهو مصيبة جديدة توظّفها المعارضة للتشديد على أن هذه الحكومة غير جديرة بتحقيق مصالح الدولة.
يُظهر ما سبق حجم المأزق الذي تعيشه إسرائيل حالياً، وخطورة انقسام المجتمع إلى هذه الدرجة الخطيرة التي قد تؤدّي إلى تفكّك الدولة؛ وقد عبّر عن هذا المعنى الرئيس الإسرائيلي، هيرتزوغ، بقوله: "ما نراه اليوم كابوس للدولة، كفى! لا يمكن أن أشاهد شعبنا ممزّقاً هكذا، ما يحدُث هنا كارثة... نحن في نقطة اللاعودة، هذه لحظة الوجود أو العدم".
ربما لا يمكن لأحدٍ أن يعرف كيف ستنتهي أزمة الثورة القانونية في إسرائيل، لكنّ الواضح أنّها علامة جديدة على أنّ هذا الجيل من القادة السياسيين يُسارع بإسرائيل إلى غايتها الحتمية.