إذا صدّقنا كلام دونالد ترامب، قبل أيام قليلة، فمن المتوقّع أن يتم توقيفه اليوم، الثلاثاء، بأمر من المدعي العام في نيويورك. هذا خبر من عيار ثقيل (بقطع النظر عن تجلياته المحتملة على الأرض) ويرقى إلى مرتبة السابقة التاريخية، فلم يسبق القاء القبض على رئيس أميركي من ناحية، وقد يُؤرّخ به، في وقت لاحق، لتفكك اتحاد الولايات، وانهيار الإمبراطورية، وعودة الحرب الأهلية، من ناحية ثانية.
وإذا كان في مجرد الإيحاء بما في الحدث من ثقل وتداعيات تبرر التوقف عنده في معالجة اليوم (ومعالجات لاحقة) فثمة دلالة أبعد تتجاوز هذا كله، وتحرّض على الكلام عن "فساد العالم". وفي الحالتين ما يكفي لتنضيد وتضافر ما يقع من شواهد وأحداث، تبدو لوهلة أولى غير متصلة، في مناطق مختلفة من العالم، في "نموذج تفسيري" واحد، التعبير الأثير لدى طيّب الذكر الراحل عبد الوهاب المسيري.
ولا يمكن، بقدر ما أرى، بناء نموذج يُفسّر ما أعني "بفساد العالم" دون تحويل ذلك الكائن البرتقالي إلى وسيلة إيضاح، ودون التذكير باعتباره مجرّد عرض لمرض لا المرض نفسه، مع الحفاظ في الذهن على حقيقة أن ما يصلح وسيلة إيضاح يوفر في كل الحالات، للمعنيين بالأمر، معجماً لغوياً، وحقلاً دلالياً، شديدي الخصوبة والخصوصية.
ولتكن البداية مع عبارة مفتاحية هي الكائن البرتقالي، التي لن يجد القارئ صعوبة في إحالتها إلى اللون الطاغي على وجه ترامب وشعره. ومن المرجّح أن عدداً لا بأس به من الناس لا يذهب باللون البرتقالي إلى ما هو أبعد من صبغة خاصة للشعر، ولا يعثر فيه على دلالة أبعد من غواية وأكاذيب نرسيس في زمن الصورة والتلفزيون، وقد كان في وقت مضى نجماً من الدرجة الثانية في عالم البرامج التلفزيونية، ومن الدرجة الثانية، أيضاً، في مجتمع النخبة الأميركية.
ومع ذلك، الحقيقة أكثر تعقيداً، ومُسليّة نوعاً ما، فقد تعرّضت فروة الرأس لثلاث عمليات تجميل لتمكين خصلات الشعر الطويلة من تغطية مناطق جرداء، اما البرتقالي على الوجه فنتيجة مباشرة لمزيج من المكياج والدهون وأشعة الشمس الاصطناعية في غرفة خاصة مغلقة (سولاريوم) لإضفاء لون داكن على بشرة شاحبة، وما يعتور بياضها من بقع وتجاعيد، وفي العادة تُغطى العينان بعدسات دائرية داكنة لحمايتهما من الأشعة. لذا، لا يبقى ما يشهد على اللون الأصلي سوى دائرة صغيرة باهتة وشاحبة حول العينين. (تأملوا الصور على الإنترنت، أو شاشة التلفزيون، الآن).
كل ما نرى في الصورة مصطنع ومُفتعل، بما في ذلك ربطات العنق الطويلة التي يُراد لها تغطية، وصرف الأنظار عن، بروز أسفل البطن. ومع ذلك، هذه حالة غير استثنائية، طالما أن عدداً يصعب حصره من الناس، من الجنسين، في زمن الصورة والتلفزيون وعدسات الهواتف الذكية، وفي مهن ومناسبات مختلفة، يفعل الشيء نفسه، يصبع الشعر، ويخضع لعمليات تجميل من وقت إلى آخر، ويرتدي الملابس بطريقة معيّنة. وهذا ما لا يحسب لهم أو عليهم إلا إذا تجلى كواجهة أولى مفتعلة لكينونة كل ما فيها مفتعل، لا الظاهر، بل والباطن، أيضاً.
ومرّة أُخرى، هذه ظاهرة غير استثنائية. دعك من صباغ الشعر والمكياج على وجوه العاملين في الحقل العام، فحتى في الحياة اليومية قد نتمكن من العثور على أشخاص نعرفهم، وكل ما فيهم ملفق ومُفتعل (أقصر الطرق إلى روما، نصف ساعة من تصفّح صور ومنشورات على الفيسبوك تكفي للعثور على نماذج تمثيلية كثيرة بريئة تماماً، تعاني من عزلة مروّعة، غير مؤذية، بالتأكيد، ولكن وقع أصحابها في غرام أنفسهم).
وطالما أسقطنا عن أشياء كثيرة تبدو مصطنعة ومُفتعلة صفة غير الاستثنائي، وطبّعنا وجودها في الحقل العام (بلا أحكام قيمية مسبقة) فمتى وكيف تصير هي، وما يدخل في حكمها، دليلاً على "فساد العالم"؟
ثمة أكثر من إجابة محتملة، ولكل منها معجمها اللغوي، وحقلها الدلالي، ولنقل بشكل عام: إذا صارت مُعدية، يمكن التماهي معها، ومحاكاتها، وكفّت نماذجها التمثيلية عن محاولة التملّص من دلالات سلبية وثيقة الصلة، وجعلت منها معياراً paradigm مقبولاً للقياس بها (الطبيعي أن ينفي الكاذب تهمة الكذب عن نفسه، وأن يُعامل الكذب كنقيصة، ولكن إذا صار الكذب عنوان الشطارة، وشاهداً عليها، تنتفي دلالته السلبية، ويصير قابلاً للمحاكاة).
ولننظر إلى أشياء كهذه، وما لها من تداعيات سلبية وكارثية، إذا اقترنت بشخص صعد إلى قمة هرم السلطة في دولة عظمى، وتصادف صعوده مع (ونجم عن، بالتأكيد) لحظة نكوص في حياة الإمبراطورية، وادعى لنفسه دور المخلّص، وصار العالم رهينة بن يديه، بلا مؤهلات حقيقية كالتعليم، والكفاءة، وبلا ثقافة أو قيم وأخلاق يعتد بها، أو يمكن التدليل عليها، وحتى بلا قدرة على التركيز الذهني أكثر من دقائق معدودات.
ترامب هو هذه الأشياء كلها. وإذا افترضنا أن النظام القضائي الأميركي سيتمكّن من محاكمته (وأرجو أن يحدث ذلك) فلا يبدو من قبيل المجازفة القول إن الكائن البرتقالي لن يُحاكم على خلفية قابليته العالية للعدوى، وتأثيره السام في بلاده والعالم، بل سيُحاكم بطريقة لا تضع النظام الأميركي، ومجتمع الفرجة نفسه، في قفص الاتهام. فاصل ونواصل.