حرب أوكرانيا .. حرب باردة جديدة

تنزيل (13).jpg
حجم الخط

بقلم د عاطف أبو سيف

 

 

مر عام تقريباً على اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية، وفيما كان البعض يتوقع أن تكون حرباً خاطفة يتم حسمها أو أن تكون انطلاقة حرب عالمية ثالثة فإن الأمر بات يتجه أكثر نحو حرب باردة جديدة تكون نقطتها المشتعلة الوحيدة أوكرانيا.
من الصعب القول، إن أطرافاً أخرى لن تنضم للحرب ولن تجد نفسها تقاتل في جبهات مختلفة، ولكن أيضاً يصعب توقع أن تنخرط هذه الدول في حرب شاملة. ثمة حرب باردة بين القوى الكبرى وتوترات يتم تصعيدها من فترة لأخرى وإخراجها للسطح دون نزع الفتيل الكبير، إذ إن القصد أن تظل النيران مشتعلة في نطاق ضيق.
لم يكن أحد يتوقع أن تستمر الحرب الأوكرانية هذه الفترة وتدخل عامها الثاني. كان الأمر مجرد ضربات روسية تبعها ضم لبعض الأقاليم التي تطالب بالانفصال عن كييف. كان الأمر مجرد حرب قصيرة أو تصعيد محدود. لكنه من الوقت بات يتضح أكثر من ذلك بكثير. فالقصف استمر، وضرب المدن استمر، وحرب الجسور تواصلت، واستهداف البنية التحتية تصاعد. وصار جلياً أن حربا مختلفة تدور رحاها وأنها كلما مر الوقت صارت اكثر بعداً عن التوقف.
لم تتوقف الحرب. ولم يتوقف الخطاب المتصاعد والمطالب المتزايدة ودخلت الحرب الإعلامية على خط التصعيد وتم استخدام خطاب الكراهية والتحريض ومحاولة الاستنجاد بقاموس الحروب السابقة من قبل تشبيه العدو بالنازية أو الفاشية وما إلى ذلك. بعبارة أخرى دخلنا حرباً جديدة. ولم يكن من المتوقع طالما أن الأمر يتعلق بما يمكن اعتباره تمددا روسيا أن تقف واشنطن وحلفاؤها الغربيون مكتوفي الأيدي. كان تدخلهم ليس خوفاً على كييف ولا يمكن أن يكون كذلك، بل كان خوفاً من انتصارات روسية قد تساهم في تعاظم القوة الروسية وبالتالي إضعاف تمدد الغرب الذي لو سمح بوتين بدخول كييف في «الناتو» لكانت صواريخ الأخير على مقربة من نافذة غرفة نومه. وربما أيضاً لم يكن من المنطق أن يتوقع بوتين من واشنطن ولندن وباريس وبرلين أن تقف مكتوفة الأيدي تنظر إليه يزحف نحو حوض النفوذ الروسي في شرق ووسط أوروبا، وبالتالي يعرض كل انتصارات الغرب بعد سقوط جدار برلين للخطر.
كان متوقعاً أن تتدحرج الأمور كلما مر الوقت. وفيما لم يكن احد يستطيع أن يجزم كم ستستمر المدافع. فإن المؤكد أن الوقت كان يعني المزيد من التصعيد بين قادة الحرب الحقيقية أي موسكو وواشنطن. وبكلمات تعني ذلك بالقليل فإن واشنطن كان تخوض حرباً مع موسكو بطريقة غير مباشرة إذ كانت كييف تقوم بالأمر نيابة عنها وبسلاحها وعتادها. كلما مر الوقت صار من الصعب توقع نهاية المعركة لأن الجميع صعد على الشجرة وصار النزول يحتاج لأكثر من مبادرة بل إلى حسم وحسم نهائي. وبقدر منطقية توقع إصرار بوتين على الحرب حتى كسر أنف زيلينسكي فإنه من المنطقي توقع تصاعد الدعم الغربي لكييف حتى تواصل الحرب لاستنزاف موسكو. الحرب بات من الواضح أن أحداً لا يريد أن يحمسها. هناك نوع من الموافقة غير المتفق عليها بأن استمرارها لا يعني خسارة أي طرف. صحيح أن أوكرانيا تدفع الثمن غالياً حيث يتم تدمير مدنها وقراها وحيث لا يمكن أن تستعيد عافيتها بسهولة بعد سنوات، إلا أن تواصل الدعم المالي والحربي الأميركي يعني أن روسيا تضع المزيد من السلاح وتستنزف قدراتها بشكل متزايد. لا أحد يعرف حقيقة القدرات الكامنة لكن من المؤكد أن ثمة استكشافا متواصلا وثمة إصرارا على مواصلة الصراع وإن عبر ساحة معركة ثالثة.
وربما يمكن رد جزء من هذه الحرب إلى حقيقة كونها استمراراً للحرب الباردة التي لم تضع رحاها بعد. حتى بعد سقوط جدار برلين فإن الحرب لم تنته وحتى بعد أن تم ضم معظم دول أوروبا الشرقية إلى «الناتو» وإلى الاتحاد الأوروبي وبعد أن أعمل البنك الدولي خططه لإعادة هيكلة اقتصادات تلك البلدان وبالتالي التدخل في طريقة الحكم فيها بما يضمن تأهيلها لتكون تابعة للغرب فإن الحرب مع ذلك لم تنته. القصة ليست أن جدار برلين سقط أو أن الاتحاد السوفييتي بات روسيا الاتحادية بل أن ثمة عداوة لم تختف بين أطراف الحرب الباردة. ربما تكون هدأت وربما أن الظروف تطلبت نوعا من السكون لكن الحقيقة الكبرى أن هذه الحرب لم تنته.
لم تكن زيارة بايدن لكييف رغم الحرب والقصف وإن كان قد طلب ضمانات بألا يتم التعرض له، وكذلك زيارته لوارسو التي كانت قلب الحلف النقيض لـ»الناتو»، مجرد زيارة عادية. فالرجل العجوز مدفوع من قبل الإدارة ليؤدي الدور المطلوب من الرئيس في تربيط التحالفات والتأكيد على التزامات واشنطن لحماية شركائها. بايدن يمشي بجوار زيلينسكي ومن ثم في وارسو في رسائل: سنواصل دعم شركائنا الجدد، حتى لا يعودوا إلى أحضان موسكو.
بالنسبة لواشنطن ثمة معركة أهم وهي الصراع مع الصين. الصين التي يجب تحييدها من الحرب أو من أي تصعيد. وبالنسبة لواشنطن وفي ظل سياسة الانكفاء التي تلوح بوادرها قريباً فإن على أوروبا أن تتعامل مع مشاكلها وحدها، يكفي تورط واشنطن في حروب كونية من أجل حماية القارة العجوز. وعليه لا توجد رغبة حقيقية في دخول حرب ولا في تصعيد مباشر. جل ما قد يتم فعله هو تسليح أوكرانيا حتى لا تنهار وتجد الدبابات الروسية طريقها غرباً. إنها حرب باردة ستطول أكثر وأكثر إلا إذا قرر بوتين أمرا مختلفا.