زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ الخاطفة إلى موسكو، التي جرت منتصف الأسبوع الماضي، تعتبر بكل المقاييس واحدة من أهم اللقاءات الدولية على الإطلاق، وذلك نظرا لما تعنيه تلك الزيارة في هذا التوقيت بالذات، فهي عززت من تحالف الجارتين الدولتين العظميين، اللتين يجمعهما الصراع مع الولايات المتحدة، وحيث إن واشنطن قد دخلت في مواجهة صريحة ومفتوحة ومكشوفة مع روسيا منذ أكثر من عام، أي منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في شباط من العام الماضي، حاولت خلال عام أن تخدع الصين، بدفعها لتحييدها، هذا إن لم تنجح في إشراكها في حربها العالمية التي حاولت شنها على روسيا، وكانت ذروة تلك المحاولة قد اتضحت خلال مشاركة قادة العشرين في بالي بإندونيسيا في تشرين الثاني من العام الماضي.
فضلا عن المعلن من توقيع سلسلة من الاتفاقيات والمذكرات الهادفة إلى تعزيز التعاون الثنائي، التي وقعها الزعيمان، رصدت وسائل الإعلام الغربية ما همس به الرئيس الصيني بينغ لصديقه الرئيس الروسي بوتين عند وداعه، وذلك باستخدام لغة الشفاه، وذلك باللجوء إلى خبراء لغة الشفاه، حيث قالت صحية الديلي ميل البريطانية بأن بينغ قال لبوتين بأن تغييرا لم يحدث منذ 100 سنة، يجري حاليا حيث يقوده الرجلان معا، فوافقه بوتين على الفور.
يدرك إذا زعيما القوتين العظميين، أولا أهمية ما يقودان بلديهما والعالم إليه، كذلك أهمية وضرورة التحالف بينهما، حيث من الواضح تماما أن هذه الزيارة وضعت حدا لكل محاولات أميركا والغرب، بإبعاد الصين عن روسيا، والتفرد بالدب الروسي، حتى إذا ما نجحت واشنطن في اصطياده، تحولت فورا لاصطياد التنين الصيني.
لقد كانت السياسة الأميركية مكشوفة للصينيين، خاصة بعد أن قامت نانسي بيلوسي الرئيس السابق من الحزب الديمقراطي للكونغرس، حزب الرئيس جو بايدن، بزيارة لتايوان العام الماضي، ومن ثم تتابعت فصول التوتر بين الدولتين العظميين المتنافستين على زعامة العالم اقتصاديا، لذا فإن العالم، بات شيئا فشيئا يعود لأجواء الحرب الباردة، أو لأجواء المواجهة الدولية بين معسكرين أو كتلتين، وإذا كانت الحرب الباردة قد قامت على أساس الانقسام الأيديولوجي السياسي، بين الاشتراكية والرأسمالية، وتضمنت تقسيمات جغرافية سياسية، كان أهمها قسمة أوروبا بين شرق شيوعي ضمن المعسكر الاشتراكي وغرب أوروبي ضمن حلف الناتو، وشمل كذلك تقسيم عدد من الدول، منها كوريا بين شمال شيوعي وجنوب رأسمالي، ما زال حتى الآن، وألمانيا شرقية وغربية، توحدتا بعد انهيار جدار برلين، وفيتنام شمالية وجنوبية توحدت بعد أن هزمت فيتنام الشيوعية الاحتلال الأميركي وعملاءه في جنوبها.
اليوم يجري الاصطفاف بين كتلتين، على أساس اقتصادي، في الجانب الغربي توجد أميركا وأوروبا، وفي الجانب الشرقي توجد روسيا والصين، وبينهما هناك دول عديدة منها ما هو أقرب لكتلة الشرق، مثل الهند، إيران، تركيا، كوريا الشمالية، فنزويلا، ومنها ما هو أقرب للغرب، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، ودول شرق أوروبا التي كانت ضمن حلف وارسو في الحرب الباردة، مثل بولندا، وفنلندة، ورومانيا، والتشيك، وغيرها.
وكلما تقدم الصراع بين كتلتي الشرق والغرب، ازدادت حدة الاصطفاف بينهما، بين العديد من دول العالم الأخرى، وحيث إن ما يهمنا نحن الفلسطينيين، هو ما يمكن أن يحدث من تطورات في الشرق الأوسط تحيط بملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ونحن نتابع الموقف الإسرائيلي من الحرب الروسية - الأوكرانية، التي يمكن اعتبارها النقطة التي بدأت معها المواجهة الكونية، وما يرافقها من اصطفاف دولي، حيث تردد الموقف الإسرائيلي بين الصمت والانحياز الخجول مع الجانب الغربي، الذي طالما اعتبرت إسرائيل جزءا منه منذ نشأتها، ثم بعد ذلك مواقف الدول العربية المؤثرة حاليا في السياسة الإقليمية، خاصة دول الخليج، التي كانت اصطفت معظمها على خلفية الصراع الإقليمي مع إيران مع أميركا، لدرجة الدخول في اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، لكننا اليوم، ونقصد بشكل خاص كلا من المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات، نلاحظ أن الدولتين تعيدان حساباتهما، بعد أن خرجت السعودية عن الإرادة الأميركية في تحديد إنتاج النفط، ومن ثم بإعادة علاقتها مع إيران، فيما كانت الإمارات قد أعادت علاقاتها من قبل مع إيران.
أكثر من ذلك فإن الإمارات والسعودية، لم تقفا ضد روسيا، بل بالعكس، شهدت موسكو زيارات لمسؤولين رفيعي المستوى من الدولتين إليها، خلال العام التالي للعملية الروسية في أوكرانيا، وبعد أن فاجأت السعودية إسرائيل وحتى أميركا قبل أيام بإعلان عودة علاقتها مع إيران، ها هي الإمارات تفكر في تقليص مستوى تمثيلها الدبلوماسي مع إسرائيل، بل ووفق تقرير نشرته هيئة البث الإسرائيلية (كان 11) بعث الشيخ محمد بن زايد عبر مستشاره خلدون المبارك رسالة شديدة اللهجة للإسرائيليين معتبراً سلوك الحكومة الإسرائيلية في كل ما يخص الشأن الفلسطيني مهدداً للاستقرار الإقليمي ومتعارضا مع اتفاقيات أبراهام، وإن كان ذلك قد تزامن مع ما أعلنه وزير مالية إسرائيل في باريس من إنكار لوجود الشعب الفلسطيني ومن أطماع صريحة بضم كامل أرض الأردن لإسرائيل الكبرى، إلا أنه لا يمكن استبعاد المتغيرات الدولية عن مواقف الدولة العربية المهمة في المنطقة، والتي ترسم سياساتها وفق منطق براغماتي معاصر، يتميز بالتحديث السريع والفوري في رسم السياسة.
العالم يتغير حقا وفعلا، وكلما توغلت إسرائيل على طريق التطرف، بالسير على طريق التفرد والهيمنة، في ظل محاولة استثمار النظام العالمي أحادي القطب، الذي يبدو أنه في طريقه للتلاشي، بعد أن فشلت حتى اللحظة المحاولة الأميركية بإخضاع روسيا، فهي قدرت أولا أن فرض العقوبات ومن ثم الحصار الدولي على روسيا، سيدفع نخبة رجال الأعمال الروس إلى الانقلاب على نظام بوتين القومي الروسي، وتاليا هي تراهن اليوم على استنزاف الاقتصاد الروسي، لدرجة إرهاق الدولة الروسية، كما حدث مع الاتحاد السوفياتي الذي كان سباق التسلح سببا رئيسا لتفككه بعد عقود من إقامته، لكن السلاح الأميركي ذو حدين، فحده الثاني يثقل كاهل الاقتصاد الأوروبي الحليف الرئيس لأميركا على الصعيد الكوني، ثم يرهق الاقتصاد الأميركي نفسه، من خلال ما يعلن عنه من مساعدات مالية لأوكرانيا لتستمر على طريق الحرب وإغلاق منافذ الحل السياسي عبر طريق التفاوض.
ولأن النظام العالمي أحادي القطب فشل عبر ثلاثة عقود في إقامة دولة فلسطين، وفق حل الدولتين الذي رعته أميركا، وعلى أساس اتفاق أوسلو الذي رعته في حديقة البيت الأبيض، ولم يعد هناك أي أمل في قدرة ذلك النظام على وقف مسيرة الضم التي يرفع رايتها اليمين الإسرائيلي المتطرف، فإن مصلحة فلسطين تكمن في تغيير النظام العالمي أحادي القطب، خاصة أن معظم أركان كتلة الشرق التي تسعى لتغيير ذلك النظام، تؤيد الحق الفلسطيني فعلا وليس قولا فقط، في إقامة دولته المستقلة، وهكذا فإن النضال الفلسطيني من أجل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ينتمي للمستقبل القريب، الذي يلوح في الأفق، فيما التطرف الإسرائيلي الرافض لذلك الحق والمنكر له، على عكس حتى المعتدلين الإسرائيليين الذين أقروا به من قبل، ينتمي إلى ماض أو حتى حاضر آفل وذاهب إلى التلاشي، وما النصر إلا صبر ساعة، وقد تعتبر إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بعد وقت قصير، أحد عناوين العراك الكوني بين الكتلتين، بل ربما تتنافسان كلاهما لرفع شعار إقامة دولة فلسطين المستقلة، الأمل الذي تريده كل شعوب الأرض، فيما تقدم كل واحدة منهما برنامجها لإقامة تلك الدولة، التي حولها قد يكون أو ينتفي السلام العالمي.