تعود أصول وزير المالية في حكومة الاحتلال ورئيس حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش إلى القرية الأوكرانية سموتريتش التي تقع ضمن محافظة خملنيتسكي، وقد ورث سموتريتش اسمه الأخير عن جدّه الذي كان قاضيًا في هذه القرية. وبوصفه أوكرانيًا، ينتمي سموتريتش إلى عائلة ذات ثقافة سلافية، ومثلها مثل عائلات يهود أوروبا الشرقية، أصولها العرقية خزرية. إذًا فهو يهودي أشكنازي، والاشكيناز بحسب سفر التكوين هم يافتيين هندو-أوروبيين. إذ يردُ في سفر التكوين التوراتي: "وَبَنُو جُومَرَ: أَشْكَنَازُ وَرِيفَاثُ وَتُوجَرْمَةُ." (تك 10: 3). وإذا اعتمدنا هذا النص، لا ينتمي سموتريتش إلى العرق العروبي (السامي) الشرق أوسطي، وأشكيناز كما يعرفها أهل الاختصاص، هو الاسم القديم للمملكة الخزر اليهودية، التي اعتنق سكانها اليهودية في القرن الثامن الميلادي فقط.
قد لا يكون ما ورد أعلاه مقدمة ذات صلة، إلّا أنه يغدو كذلك إذا ما فسّر خلفية تصريحات بتسلئيل سموتريتش في باريس يوم 19 آذار/ مارس 2023، حيث اعتلى منصةً رُسم عليها ما تسمى "خارطة أرض إسرائيل" – وتضم فلسطين والأردن وأجزاء من سورية حتى دمشق – وبدأ بخطبةٍ يُنكر فيها الوجود الفلسطيني، قائلًا: "لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني، هذه هي الحقيقة التي يجب سماعها في البيت الأبيض". مضيفًا، خلال كلمته في أمسية إحياء ذكرى وفاة الناشط الفرنسي-الإسرائيلي جاك كوبفر: "لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني.. هذا [الشعب الفلسطيني] ليس إلا اختراعًا يعود عمره إلى أقل من 100 سنة". وأضاف، بحسب ما ذكرت صحيفة يديعوت أحرنوت، "أنه هو نفسه فلسطيني. جدي الذي كان في القدس من الجيل الثالث عشر هو الفلسطيني الحقيقي. وجدتي التي ولدت في تولا منذ أكثر من 100 عام لعائلة من الرواد، فلسطينية".
من الواضح أن الصهيوني، أي صهيوني، ومهما حاول تلفيق اختراعات وفبركات تاريخية وأثرية وسياسية بأنّ له حقوق في فلسطين، لن يستطيع تجاوز عقدة أنه غريب عن تلك البلاد، وأنه سليل أجداد جلبتهم المشاريع الاستعمارية الأوروبية – البريطانية منها تحديدًا والمنطلقة من رؤى مسيحانية دينية – معروفة للقاصي والداني، ولا يجد ذلك الصهيوني حلًا لذلك إلّا بنفي الآخر الأصلاني كي ينتصر في معركته. وفي حالتنا، نفي وجود الشعب الفلسطيني صاحب الأرض والوطن والتراث والتاريخ، وإحلال نفسه مكانه، بل والادعاء أنه الأصلاني وصاحب الحق الأول والباقي مخترع. هذا ما فعله سموتريتش، وما قاله لا يعبّر عن نفسه فقط، بل عن الأغلبية الساحقة من سكان دولة الاحتلال؛ ألم يسرق المحتلون اللباس الشعبي الفلسطيني والمطبخ الفلسطيني والعملة الكنعانية القديمة "الشيكل"، بل واللغة الكنعانية الفلسطينية؟ ألم يغيروا أسماءهم وأسماء عائلاتهم، وحولوها لأسماء عروبية قديمة - جديدة، كما فعل البولندي ديفيد غرينز، بتغيير اسم عائلته إلى بن غوريون، حتى يمنحها بعدًا عروبيًا (ساميًا)؟
اعتمدت الحركة الصهيونية، وما زالت، على التلفيق كي تربط نفسها بيهود فلسطين القدماء سلاليًا، لكن لا التاريخ ولا علم الآثار يساعدها في ذلك. إذ أخفقت في كل ما اعتمدته من خرافات لم تنطلِ إلا على العالم المسيحي الغربي الذي يصدقها مهما قالت؛ أليس هو الذي اخترعها وصدّرها إلى الشرق الأوسط لتعيث فيه خرابًا؟ لقد أثبتت دراسات الحمض النووي التي أجراها علماء يهود، من أمثال عيران الحايك، أن أكثر من تسعين في المئة من يهود العالم الأشكيناز هم من الخزر، ولا علاقة لهم بفلسطين ويهودها القدماء والشعوب العروبية القديمة (السامية).
تجاوز سموتريتش بنفيه للشعب الفلسطيني غولدا مائير، التي وصفت نفسها في إحدى المقابلات التلفزيونية بأنها فلسطينية، وقالت إن الفلسطينيين هم يهود ومسلمون ومسيحيون، وأن بلادهم تمتد من البحر المتوسط حتى حدود العراق. لا جديد فيما قاله سموتريتش، ولا في خريطته المعلنة، فقد قال فلاديمير جابوتنسكي الأوكراني الأصل، مؤسس حزب حيروت الذي أصبح الليكود فيما بعد، أنّ "للأردن ضفتين؛ واحدة لنا والأخرى لنا". ولا جديد في مطالبة سموتيرتش بالتطهير العرقي للشعب الفلسطيني، فقد نشأت الحركة الصهيونية تحت شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وكان مؤسسو الصهيونية وروّادها يعلمون أن ثمّة شعب في هذه الأرض هو الشعب الفلسطيني، لكن الشعار يعني نفيهم وقتلهم، كي تستحيل الأرض لما سيصبح لاحقًا "الشعب اليهودي".
ربما الجيد في حديث سموتريتش أنه ذكّر بعض العرب بأن الهدف الصهيوني لم يتغير، فبلادهم ما زالت مستهدفة، وإذا ما هُزم الفلسطينيون وتحققت أحلام الصهاينة بطردهم أو إبادتهم فإن الدور آتٍ عليهم. إشارة التقطها الوزير الأردني السابق سمير الحباشنة، الذي طالب سلطات بلاده بتسليح الشعب الأردني ليكون جاهزًا للدفاع عن بلاده إذا نفّذ الصهاينة خططهم. دعوة في محلها، لكنّ الأولى أن يساهم العرب في تسليح الشعب الفلسطيني ويدعموا صموده بالمال والسلاح، كي يبقى خطّ الدفاع الأول عنهم، وبذلك يوفّر عليهم القتال في شوارع مدنهم. كل الثورات الفلسطينية قُمعت، وانتهت نتيجة لضغوط العرب على الشعب الفلسطيني وتساوقهم مع بريطانيا العظمى، ومن بعدها الإدارة الأميركية، وما زالوا حتى اليوم يشاركون في كل ما يساهم في إخماد روح الفداء والتضحية والتحرير لدى الشعب الفلسطيني.
والسؤال الذي يرفعُ رأسه هنا: ألم يحن الوقت للاستفادة من تجارب الماضي الماثل بمآسيه أمامنا، ألم يحن الوقت للتخلص من أوهام التسوية وإمكانية التعايش مع الصهيونية العدوانية التوسعية؟ أم أن العربي لا يأخذ بالدرس إلا إذا وصلت النار إلى عتبة منزله؟ ويبدو أن قادة الكيان الصهيوني يصبّون الوقود لفعل ذلك، كما يقول موشيه يعلون في وصفه لبتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، الوزيران في حكومة نتنياهو، بأنهم يقودون إسرائيل إلى المعركة الأخيرة؛ "معركة يأجوج ومأجوج".
لن يكون بتسلئيل سموتريتش آخر الصهاينة الذين ينفون وجود الشعب الفلسطيني، لكن المهم أن يفهم العرب أنهم مهما قدموا من تنازلات وأبدوا تسامحًا مع أعدائهم، فإن التعايش مع دولة الاحتلال والتطبيع معها لن يزيد قياداتها إلا صلفًا وعجرفةً. وإذا لم تتبنَ القيادات الفلسطينية والعربية استراتيجية أخرى للتعامل مع السياسات الصهيونية الآخذة بالتطرّف، هل سيغيّر الصهاينة من نهجهم؟ بحكم التجربة التاريخية لا يبدو بأنّ تغييرًا ما سيحدث.