هناك الكثير من المفكرين والمحللين ممن كتبوا عن زوال إسرائيل أو نهاية الدولة اليهودية، ولكن هناك واحداً ممن وضع علاماتٍ على طريق تحقيق ذلك، وتبدو اطروحته في سياق القبول وفقه الواقع. ولكن بداية دعونا نسأل: من هو المفكر د. سامي العريان (أبو عبد الله)، وما هي خلفيته الحركية وفضائه الإنساني وجذور انتمائه الإسلامي؟
تعود معرفتي به إلى أواخر السبعينيات، إذ التقيته مع مجموعة من شباب فلسطين الدارسين في الجامعات المصرية، وكان -حينذاك- طالباً جامعياً بالولايات المتحدة، وقد قدم لزيارة أهله بالقاهرة، وقضاء إجازته الصيفية معهم.
كان د. العريان ينتمي للتيار الإسلامي، وكان من بين الرعيل الأول الذي عمل لخدمة القضية الفلسطينية في الولايات المتحدة، حيث كان وراء فكرة تأسيس الاتحاد الإسلامي لفلسطين (IAP)، ونجح في جمع عددٍ من الشخصيات الفلسطينية من ذوي التوجهات الإسلامية ليشكِّلوا نواة هذه المؤسسة، أمثال: البروفيسور إسماعيل الفاروقي والطبيب على مشعل والشيخ محمد الحانوتي والشيخ عمر الصوباني والمهندس ياسر بشناق وآخرين.
كان د. سامي العريان شخصية متميزة في مستواه العلمي ونشاطه الإسلامي، ويعود له الفضل في إنشاء الكثير من المؤسسات الدعوية والتعليمية ومراكز الأبحاث، ولهذا استهدفته الجماعات اليهودية الصهيونية، التي كالنت ترى في أنشطته السياسية والإعلامية وعلاقاته الوطيدة بعددٍ من رجالات الكونجرس خطراً يتهدد عمل ماكينتها الدعائية، ورسالتها في نشر وتسويق السردية الإسرائيلية.. وفي الوقت نفسه، ما تقوم به من ملاحقة نشطاء العمل الفلسطيني وخاصة الإسلاميين منهم، واتهامهم بالتطرف والإرهاب ومعاداة السامية!!
كان د. العريان أستاذاً جامعياً متخصصاً في مجال هندسة الكومبيوتر بولاية فلوريدا الأمريكية، ويحظى باحترام وتقدير كبيرين داخل الجامعة، إضافة لنشاطه الدعوي وفعالياته الحركية كمتحدث في أوساط الجاليتين الفلسطينية والمسلمة.
وبعد أحداث 11/9/ 2001، تعالت أصوات التحريض من وكلاء الإسلاموفوبيا ضد النُشطاء والدعاة الإسلاميين، وكان د. العريان واحداً من بين هؤلاء الذين طالتهم سهام الإعلام الصهيوني، حيث تمَّ تلفيق العديد من التهم إليه، وجرى اعتقاله على خلفية انتمائه الإسلامي وعمله الدؤوب لقضيته الفلسطينية. لقد تناولتُ خلفيةَ هذه الحملة الصهيونية وما تعرض له د. العريان مع غيره من الدعاة والنشطاء الفلسطينيين في أكثر من كتاب، أهمها الموسوم (مسلمو أمريكا: جالية تحت الحصار)، والذي صدر في واشنطن باللغة الإنجليزية عام 2003.
مكث د. العريان في الولايات المتحدة قرابة الأربعة عقود، كطالب وأستاذ جامعي وداعية وناشط فلسطيني ومفكر إسلامي وسجين رأي، وكان من بين تلك السنين أحد عشرة سنة قضاها بين الاعتقال والإقامة الجبرية، وقد جرى ترحيله إلى تركيا، بعد فشل إثبات التهم التي لفُقت ضده. اليوم، د. سامي العريان هو مدير مركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA) بجامعة صباح الدين زعيم في إستانبول.
في رؤيته التي طرحها لتفكيك المشروع الصهيوني قبل عدة سنوات، وعرضها في الكثير من المحافل الجامعية والمراكز البختية، مثل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالعاصمة القطرية الدوحة، بيَّن د. العريان أنَّ هناك أكثر من طريق ونهج لمواجهة إسرائيل؛ الكيان الاستعماري المارق، وأن بإمكان الفلسطينيين أن يخوضوا الصراع معها على أكثر من جبهة مواجهة، ففي الداخل هناك مساحات للمقاومة بكافة أشكالها، وفي الخارج هناك أيضاً أشكالاً من الحِراكات لنزع مخالب هؤلاء الصهاينة، وإضعاف متانة "حبل الناس" الذي يكمن فيه سرّ قوتهم.
ما عرضه د. العريان أشبه بحجر الزاوية لأية رؤية يمكن أن تُجيِّش لنُصرتنا الكثير من الأنصار وأصحاب الضمائر في الغرب، وأن تُقدم مقاربة يمكن أن تسهم في رفع المظلومية عن شعبنا وقطع هذا الحبل الذي تعتمد عليه إسرائيل كشريان حياة لوجودها.
أشار د. العريان في مقاربته الفكرية ورؤيته لتفكيك المشروع الصهيوني إلى 12 مبدأً استراتيجياً يمثلان شريان الحياة وركيزة الوجود بالنسبة إلى إسرائيل، وكلما تمَّ تقليص هذه المرتكزات والمبادئ وإضعافها كلما اقتربت نهاية هذه الدولة؛ لأنها لا تستطيع البقاء وحدها بدون الأيديولوجية العنصرية.
وقد عرض د. العريان هذه المبادئ الإثنا عشر على الشكل التالي: أولاً) الاستفراد؛ أي حصر حقهم وحدهم في الوجود على أرض فلسطين، وتجميع يهود العالم ليسكنوا فيها. الثاني) الاقصاء لغير ما هو يهودي، عبر إخراج الفلسطينيين وحرمانهم من حقوقهم. والثالث) التوسع الاستيطاني، فدومًا ما كانت الحركة الصهيونية تسعى لأخذ المكاسب والتوسع، وهذا ما وقع خلال حروب 1948 و1967. الرابع) فرض وقائع على الأرض، والخامس) هو تأسيس دولة عسكرية يكون كلُّ مواطنيها جنودًا في جيشها، نظراً لشعورها بالتهديد الدائم على استمرار وجودها. السادس) الاعتماد على القوة العسكرية في سحق أعدائها. السابع) احتكار السلاح النووي. الثامن) بناء وخلق أجهزة أمنية في غاية التطرف والوحشية، وهذا ما نراه يتشكل الآن في الضفة الغربية كمليشيات مسلحة من المستوطنين المتطرفين. التاسع) ربط الكيان نفسه بقوة دولية، كما حدث في الماضي حين ربطت إسرائيل نفسها ببريطانيا وروسيا والآن بالولايات المتحدة ذات النفوذ الكبير في العالم والمنطقة. العاشر) الحفاظ على اليهودية واليهود حول العالم. الحادي عشر) الحرص على إبقاء أعدائهم مفرَّقين، وهذا ما كانوا يحرصون عليه دائماً وخاصة مع الفلسطينيين. أما المبدأ الأخير، فهو أن تكون إسرائيل القوة المهيمنة إقليمياً، وذلك من خلال بناء التحالفات وتطبيع العلاقات مع الأقليات والأنظمة الشمولية بالمنطقة.
وقد أشار د. العريان في نهاية عرضه لتلك الرؤية، بأن آليات العمل التي اعتمدها سوف تركز على الكيفية التي سيتم بها تفكيك وإضعاف هذه المبادئ، ويرى بأن التغيير في موازين القوى العالمية والإقليمية والخلافات الداخلية في إسرائيل وحيوية حركة التضامن العالمي ضد العنصرية، سوف تُسهم في تهميش وخلخلة أركان هذا الكيان، ووضع علامات استفهام حول مستقبل وجوده.
قد تجد النخبة الفلسطينية في هذه الرؤية مدخلاً آخر للتحرك، بهدف تسريع تآكل "منسأة" هذا الكيان الاستعماري، وإن كانت هذه الرؤية تحتاج إلى الكثير من الدعم والتسويق والحشد، وهذا ما يعمل عليه الآن د. العريان وبعض المؤمنين بواقعية فكرته لتوسيع رقعة أنصارها، وهي حقيقةٌ رؤية تستحق الدراسة وتأطير الجهود خلفها.
في مسيرتي ككادر وقيادي في الحركة الإسلامية لأكثر من خمسة عقود، توزعت سنواتها بين الوطن والشتات، وكانت فرصة للتعرف على المئات من الشخصيات الإسلامية، التي تمتلك رؤية استشرافية وطاقة عمل وتستحق الكثير من الإشادة والذكر الحسن.. كان د. سامي العريان واحداً من بين أهم هذه الشخصيات في الوسط الفلسطيني الإسلامي إلى جانب الأخوين د. فتحي الشقاقي (رحمه الله) والدكتور موسى أبو مرزوق، لما يمتلكانه من الجُرأة على تقديم الأفكار وطرح المبادرات والإخلاص والتفاني في العمل، ودفع كلّ ما تتطلبه القضية الفلسطينية من تضحيات. لذا، ترك كلُّ واحدٍ منهم خلال مسيرته النضالية صفحات مضيئة من الذكريات وتجليات العطاء لسيرة حسنة يحفظ مشاهدها إخوانه. وفي سياق البصمة، هناك ما يمكن اعتباره نهجٌ وأثر.