المحاولة المنظمة لإسكات منظمات حقوق الإنسان في إسرائيل خطيرة على الديمقراطية، ويجب مكافحتها.
ولكن من المحظور أن ينسينا البحث في منظمات حقوق الإنسان، مهما كان مهماً، البحث الذي لا يجري هنا – في الصيغة السياسية التي ستحقق تسوية بيننا وبين الفلسطينيين. ذلك أنه حتى لو كفت إسرائيل عن مصادرة الأراضي والاعتقالات العابثة واستخدام القوة المبالغ فيها، فان المشكلة السياسية لن تختفي، وفي ظل عدم وجود حل للمشكلة السياسية، ستعود إلينا، زحفا أو ركضا، أعمال القمع والحرمان من الحقوق.
ان خرق حقوق الانسان في «المناطق» ليس المرض، بل أعراض المرض.
فعندما يكون الجسد مريضا فان اقوى مسكّنات الآلام لا تكون لها قيمة.
ولكن المرض، الذي يتمثل بالسيطرة على الشعب الفلسطيني تحت عنوان انعدام المفر أو انعدام الشريك، لا يحله ابتلاع مسكنات الآلام، غير أن المرض يعرض في دولة اسرائيل وكأنه مرض لا علاج له.
لا يهم ما نفعل، تقول آلة الدعاية، فان الفلسطينيين يريدون ان يقتلونا.
بتعبير آخر، تمثل الحكومة خطا يقول انه ليس للمرض حل وعليه فان معالجة الاعراض (الإرهاب) هي الطريق الوحيد. ولا يمكن للرد على سياسة التنكر هذه أن يركز على طرق المعالجة (هل الاحتلال الاسرائيلي «متنور» بما يكفي).
ينبغي له أن يتناول جذور المعضلة، سياسة الرفض الاسرائيلية، وبالتالي أقترح عدة نقاط للبحث.
1. الفكر الذي يمثله رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، هو أنه لا يوجد أي شيء ملح.
فنحن يمكننا أن نمتنع عن اي خطوات سياسية، لان الطرف الاخر «غير ناضج»، غير «سويسري» بما يكفي.
ويمكن ان ننتظر الى أن ينضج الطرف الاخر. يتجاهل هذا الادعاء حقيقة أن الواقع على الارض لا يبقى جامدا.
ليس صحيحا أن ليس لحكومة اسرائيل سياسة، فلديها سياسة اخضاع اعتبارات الامن (التي تعد التسوية السياسية جزءا منها) لـ «مشروع الاستيطان»، وتؤدي هذه السياسة عمليا إلى وضع يكون فيه الحل السياسي الوحيد هو دولة ثنائية القومية أو نظام ابرتهايد، تعيش فيه مجموعة سكانية ذات حقوق ومجموعة سكانية اخرى عديمة الحقوق، والخياران مصيبة، سياسية واجتماعية، فضلا عن ذلك، لاسرائيل توجد نافذة فرص تتمثل باستعداد اقليمي لخلق تحالف ضد الاسلام المتطرف، وثمن الانضمام إلى مثل هذا التحالف، ليس فقط في شكل التعاون الامني، القائم عمليا، بل في منح شرعية جارفة لاسرائيل، هو حل المشكلة الفلسطينية، ونافذة الفرص هذه ستغلق في هذه المرحلة أو تلك، لأنه ستتوفر سبل لتدبر الحال من دوننا. بتعبير آخر، الأمر ملح.
2. فكرة أن الطرف الفلسطيني معني بخرابنا وفقط بخرابنا تتجاهل آليات العلاقات مع الفلسطينيين.
ولما كانت اسرائيل تعرض موقفا قاطعاً لرفض التسوية، فان الرد الفلسطيني، على الأقل في مستوى الرأي العام الفلسطيني، هو التطرف المانع للتسوية. هذا ادعاء كاذب. فالسلطة الفلسطينية (التي يجري نتنياهو لها عملية تشويه سمعة مقصود) ترفض، لأسبابها، الحل المتطرف («الإرهاب»، الحرب الشاملة)، وهي تنسق مع اسرائيل وتتبنى التسوية السياسية.
صحيح أن هذا الموقف ليس شعبيا في الوضعية التي تعمق فيها اسرائيل الاحتلال، لكن التسويات توقع بين النخب السياسية وليس بين الشعوب.
ومع أن السلطة الفلسطينية لا تمثل الا جزءا من النخبة الفلسطينية، الا انها تحظى باعتراف دولي بصفتها الجهة التي لها الشرعية في الوصول إلى اتفاق باسم الفلسطينيين.
فهل معقول أنه بعد يوم من التوقيع على اتفاق ستصعد إلى السلطة قوى الإسلام المتطرف؟ حتى لو تجاهلنا امكانية أن تخف حدة «تطرف» الجمهور الفلسطيني فان الجواب سلبي. فالدولة الفلسطينية لن تعيش في فراغ، ولن تتمتع باستقلالية تامة عن محيطها.
ثمة قوى كثيرة (وعلى رأسها إسرائيل) ستمنع مثل هذا التطور.
لماذا حصل هذا في غزة؟ لان صعود «حماس» خدم في حينه غير قليل من الجهات في المنطقة. هذا ليس الوضع اليوم.
3. الاحتلال ليس فقط السيطرة على الارض. فهو السيطرة على الناس. فقد ضمت اسرائيل الارض، ولكنها لم تضم الناس.
الفلسطينيون الذين يعيشون في المنطقة لا ينالون حقوق المواطن بل محرومون بقدر كبير من الحقوق الانسانية الاساسية ايضا، وهذه ليست مجرد مشكلة في الصورة، بل مشكلة أخلاقية حقيقية، لن يحلها جعل هذه السيطرة «متنورة» أكثر.
فالحرمان من الحقوق والتنور لا يسيران معا. ان العداء الذي يثيره هذا الحرمان من الحقوق حتى في اوساط اصدقائنا سيترجم، آجلا أم عاجلا، إلى أفعال، واستمراره يسقط القيم الاساس في المجتمع الاسرائيلي.
هل هي حرب التسوية أم التصفية؟(1)
15 أكتوبر 2023