بن غفير يقبض الثمن سلفاً

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

 

لم يكن وزير المال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، هذه المرة هو الذي تصدر تقدم الحكومة الإسرائيلية على حبل التوتر الناجم عن خطتها الخاصة بتحديد صلاحيات القضاء، وقد يعود ذلك لرد الفعل الدولي ومنه الأميركي إزاء تصريحات سابقة لسموتريتش عن محو حوارة، ثم ما قال به من نفي لوجود الشعب الفلسطيني، ومن خطابه بجوار خارطة لإسرائيل تتضمن كامل دولة الأردن، إضافة لكامل أرض فلسطين التاريخية، ولكن من تصدى لمهمة شد الحبل حتى آخره هو إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، والذي كان بعد اندلاع التظاهرات الصاخبة بعد إعلان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إقالة وزير الجيش يوآف غالانت من منصبه، قد هدد بالاستقالة بما يؤدي إلى فرط عقد الائتلاف الحاكم، لو تراجع نتنياهو عن خطته الخاصة بالقضاء، والذي رأت فيه جماهير اليمين الإسرائيلي رئيس الحكومة القادم، حين خرج للمشاركة في التظاهرة المضادة التي أطلقها اليمين الإسرائيلي مقابل تظاهرات المعارضة التي وصلت ليلة إعلان إقالة غالانت إلى نحو نصف مليون متظاهر.  
لقد اضطر نتنياهو إلى استخدام ما يشتهر به من ألاعيب سياسية، بعد أن وصلت تظاهرات المعارضة أوجها، وبعد أن بدأ التصدع داخل بيته نفسه، حيث أعلن نحو ستة نواب من الليكود معارضتهم إقالة غالانت، رغم أن آفي ديختر وضع عينه على المنصب، وقالوا إنهم يؤيدون تعليق التصويت على مشروع القرار الخاص بتقليص صلاحيات القضاء، لما بعد دورة الكنيست الحالية التي تنتهي في الثاني من نيسان القادم، الأمر الذي تم وفتح الباب للتفاوض بين الحكومة والمعارضة على جوهر خطة إصلاح القضاء، برعاية رئيس الدولة إسحق هيرتسوغ، حيث ما كان يمكن لنتنياهو أن يعلن ذلك التعليق إلا بعد لقائه مع إيتمار بن غفير، ونيل موافقة وزير الأمن القومي، لكن تلك الموافقة من بن غفير لم تكن مجانية، أو بلا ثمن، بل يقال حسب موقع "تايمز أوف إسرائيل" الإخباري إن بن غفير حصل على الحرس الوطني مقابل موافقته على تعليق مؤقت لقوانين إصلاح القضاء.  
هذا الأمر أكده زعيم المعارضة يائير لابيد حيث كتب على حسابه في تويتر: مهرج التيك توك - يقصد بن غفير، الذي يريد تحويل ميليشيا السفاحين التابعة له إلى حرس وطني يجلب الإرهاب والعنف في كل أنحاء البلاد، فيما قال مفوض الشرطة السابق موشي كرادي لإذاعة الجيش الإسرائيلي، إن إنشاء الحرس الوطني تحت مسؤولية شخصية سياسية لا يقل عن إنشاء الحرس الثوري - يقصد الإيراني، فيما اعتبر ايدان رول المساعد السابق لوزير الخارجية أن نشطاء "لا فاميليا" العنصرية اليمينية سيصبحون الحرس الوطني بصلاحيات وسلاح.  
هذا يعني بكل بساطة إضفاء الشرعية الرسمية الإسرائيلية على مجموعات إرهابية من المستوطنين القاطنين في الضفة الغربية، وذلك لممارسة كل أشكال العنف والإرهاب ضد المواطنين الفلسطينيين، وذلك يعني أيضاً أن نتنياهو قد قام بحل أزمته الداخلية على حساب الجانب الفلسطيني، وإذا كانت تلك الصفقة بين نتنياهو وبن غفير أثارت كل هذا الجدل داخل الإسرائيليين أنفسهم، فكيف يكون الأمر على الصعيد الفلسطيني، ومعروف أن هذه التشكيلات العصابية هدفها الأول هو المجتمع الفلسطيني، وليس الإسرائيلي، وحقيقة الأمر أن ما يعلنه بعض الإسرائيليين من مخاوف من تشكيل هذه العصابات، ليس مبعثه كونهم يعارضون العنف والإرهاب ضد الفلسطينيين، ولكن خشية منهم بأن يتحول جزء من ذلك العنف إلى داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه.  
رغم ذلك فإن تشكيل الحرس الوطني، ليكون أداة بن غفير في فرض برنامجه الترانسفيري والإرهابي ضد الفلسطينيين، يعني أن يكون قوة موازية للشرطة، وحتى الجيش، اللذين ما زالا يعملان كمؤسستي دولة، ومنذ اليوم الأول بدأت تظهر التعارضات بين الأداء المؤسساتي للشرطة وقرارات بن غفير، فيما كانت حدة الخلاف والاحتكاك بين الجيش بوزيره غالانت، وحتى رئيس أركانه هيرتسي هاليفي، والوزير بوزارة الدفاع سموتريتش تصل لذروتها ميدانياً في أكثر من مناسبة.  
لذا فقد أعلن مسؤولون بالشرطة الإسرائيلية معارضتهم لتلك الصفقة، فيما اعتبر النائب عن حزب العمل في الكنيست جلعاد كاريف، أن إنشاء الحرس الوطني بسلطة مباشرة من بن غفير تهديد خطير للديمقراطية لا يقل عن تشريعات القضاء المثيرة للجدل.  
أغلب الظن أن نتنياهو الذي يقع حالياً تحت الضغط من جهة اليمين المتطرف، ومن جهة المعارضة بالاتجاه المعاكس، لن يكون بمقدوره أن يحسم خياره، وإن كان بالطبع وهو اليميني جداً، يفضل الانحياز لشركائه في الحكم، لكن الضغط الداخلي والخارجي، أجبره على الانحناء حتى تهدأ العاصفة، وهذا ما تدركه المعارضة جيداً، حيث أعلن منظمو الاحتجاجات عن عدم وقفها، واستمرارها، بنفس الوتيرة التي كانت عليها، قبل أن تصل الذروة بإعلان إقالة غالانت، وحيث إن المعارضة السياسية بقيادة يائير لابيد وبيني غانتس خبرته وخبرت ألاعيبه جيداً، فلن يكون بمقدوره خداعهم هذه المرة، لذا فإنه قد تأتي اللحظة التي فعلاً يتفكك فيها الائتلاف، ولا يمضي فترته القانونية - أي 4 سنوات في الحكم، وإذا ما حدث ذلك، بسبب من إرضاء الخصوم بتعليق أو حتى إلغاء تام لخطة إصلاح القضاء كما يطالب حزب العمل، فإن المقابل سيكون تشكيل الحرس الوطني بإمرة بن غفير.
وإذا ما تفكك الائتلاف الحالي، فإن بن غفير سيكون قد خرج بذلك الجيش الخاص به وبالمستوطنين، والذي حتى لو اقتصر نشاطه ضد الفلسطينيين، وابتعد عن الداخل الإسرائيلي، فإن ذلك سيعني إخراج دولة إسرائيل بمؤسساتها، وأولها وأهمها مؤسستا الجيش والشرطة، من الضفة الغريبة، بحيث تصبح ميليشيات بن غفير الكهانية، بعباءة الحرس الوطني هي سلطة وقوة الاحتلال، أو الدولة الثانية، التي لن تغلق أبواب الحل السياسي مع الجانب الفلسطيني نهائياً وحسب، بل ستعود لإسرائيل بمرشح لرئاسة الحكومة، هو بن غفير نفسه، وليس نتنياهو أو أي مرشح آخر من حزب الليكود.
ستنطبق بذلك على الإسرائيليين مقولة: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، فإذا كان هدف حرس بن غفير الوطني هو ممارسة أقصى أشكال العنف والإرهاب ضد الفلسطينيين، فإنه لن يطول الوقت، حتى يمارس ذلك الحرس نفسه الإرهاب ضد الخصوم السياسيين الإسرائيليين، الذين سيكون من السهل عليه جداً أن يلصق بهم تهم الخيانة الوطنية والتفريط بمصالح الدولة، وما إلى ذلك، ثم يمد حبل الإرهاب ليشمل قادة وقطاعات واسعة من اليمين الليكودي نفسه، بتهمة التراخي أو عدم إظهار الحزم الكافي واللازم لفرض واقع الأمر الاحتلالي على الشعب الفلسطيني من جهة، كذلك عدم إخضاع ما يسميهم اليوم الفوضويين، أي المحتجين والمتظاهرين ضد سياساته على طريق تحويل إسرائيل لدولة ديكتاتورية من جهة ثانية.  
إن أهم درس يمكن استخلاصه اليوم، مما يحدث داخل إسرائيل هو، أن نتيجة الانتخابات قد تكون خادعة، وأنها في بعض الأحيان، قد تفتح الباب للانقسام الداخلي، فحيث إن الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة جاءت بفوز صريح لليمين، ظن معه أن حالة التوازن السابقة قد انتهت، وأن الحكم قد ترسخ لليمين ببرنامجه المتطرف، بما يسمح له بإحداث الانقلاب في مؤسسات الدولة لإغلاق الثقوب التي تهدد وجوده في الحكم، ومنها ما يخص آرييه درعي وبنيامين نتنياهو شخصيا من تهم بالمحكمة، وهو ما دفع الشارع الإسرائيلي، خاصة منه ناخبي الوسط واليسار، الذين تقاعسوا عن الاقتراع في الانتخابات، لينزلوا للشارع، لأنه كان واضحاً أن المعارضة السياسية في الكنيست غير كافية لإيقاف مسعى اليمين للسيطرة على مؤسسات الدولة، وليس على الحكومة فقط. وهذا إدراك حقيقي بأن الثمن الذي يقبضه بن غفير اليوم، لن يكون على حساب فلسطين وحسب، بل وعلى حساب الإسرائيليين أنفسهم، وعلى حساب مستقبل دولتهم.