خيارات نتنياهو للهروب إلى الأمام.. محدودة وشائكة

تنزيل (10).jpg
حجم الخط

بقلم عريب الرنتاوي

 

 

 

يمكن النظر إلى عطلة الأعياد التي خرج إليها الكنيست بوصفها فاصلاً زمنياً قصيراً بين مرحلتين من المواجهة مع خصومه المحليين، والبالغة ضفاف العنف والتلويح بأسوأ الخيارات، وسط قناعة تتجذر لدى المراقبين بأن الاستعصاء سيظل سيد الموقف، أياً كان السيناريو الذي سينظم الأحداث والتطورات في الأزمة الإسرائيلية الداخلية، فـإسرائيل بعد الأزمة لن تعود إلى ما كانت عليه قبلها، والفجوة التي شرخت مجتمعها إلى شطرين متربصين تنبئ بما هو أسوأ، حتى بافتراض الوصول إلى مقايضات وتسويات هي بحكم طبيعتها ترقيعية ومؤقتة.
هذا الانسداد يدفع المراقبين إلى طرح سؤال عمّا إذا كان نتنياهو على رأس حكومته السادسة، وربما الأخيرة، سيلجأ إلى تصدير أزمته الداخلية إلى الخارج، بافتعال مواجهة مع "عدو خارجي"، على أمل أن يفضي "التهديد الخارجي" إلى شد العصب الإسرائيلي الداخلي، وإطفاء بؤر التوتر بين الكيانات والمكونات السياسية والفكرية والاجتماعية الإسرائيلية التي لطالما عزز لحمتها وجود خطر خارجي داهم يأخذ في الغالب الأعم شكل "تهديد وجودي"، سواء أكان تهديداً حقيقاً أم متخيلاً، واقعياً أم متطيراً.
وتتناسل من سؤال المراقبين "المركزي" ذاك سلسلة من الأسئلة الفرعية، منها على سبيل المثال لا الحصر: أين ستكون وجهة نتنياهو ومغامرته المحتملة المقبلة؟ ومن هو "العدو" الذي سيكون موضع الاستهداف؟ وهل ينجح نتنياهو في تحقيق مآربه؟ وهل يكون قادراً على تسويق بضاعته وتسويغها؟
الأنظار تتجه صوب 3 جبهات تتفاوت التقديرات بشأن استعداد نتنياهو وقدرته على إشعالها، هي الجبهات الفلسطينية واللبنانية والإيرانية، فأين سترسو أشرعة التصعيد الإسرائيلي؟ وما الجبهة الأكثر عرضة للتسخين في المرحلة المقبلة؟
الجبهة الفلسطينية تبدو مشتعلة منذ زمن، بيد أنها محكومة بقدر "مضبوط من التصعيد" لا يستطيع نتنياهو أن يتخطاه من دون المقامرة بتكبد خسائر على مسارات أخرى، فالولايات المتحدة، ومن خلفها مروحة واسعة من اللاعبين الدوليين والعرب، لا ترغب في رؤية المواجهة الفلسطينية - الإسرائيلية تنزلق صوب "الانفجار الكبير".
إن إدارة بايدن لا تمتلك رؤية غير تلك القائمة على "التهدئة في مقابل الاقتصاد"، في غياب أي استعداد جدي لديها لترجمة "رؤية حل الدولتين" وفتح أفق سياسي ذي مغزى، والعلاقات الأميركية – الإسرائيلية التي تواجه بعضاً من الفتور والنفور لا ينقصها المزيد من عوامل التوتر، أو هكذا يفكر نتنياهو شخصياً على أقل تقدير.
التصعيد المنفلت من عقاله في القدس والضفة قد يستجرّ قطاع غزة ومقاومته إلى ساحة المواجهة، ما يعني حرباً إسرائيلية جديدة على القطاع وتعريض الداخل الإسرائيلي لموجات جديدة من الصواريخ -وربما المسيّرات الانتحارية- الفلسطينية. إن تطوراً كهذا سيفهمه خصومه على أنه "حرب غير ضرورية"، هدفها النجاة الشخصية وتمرير صفقة الإصلاحات تحت دخان كثيف من القصف المتبادل.
التصعيد غير المضبوط سيضيف متاعب إضافية إلى مسار التطبيع الإبراهيمي، وربما يقضي على آخر أمل لنتنياهو في ضمّ السعودية إلى لائحة الدول "المطبعة" مع كيانه الاحتلالي، وسيجعل جهود واشنطن الرامية إلى تسليك قنوات "التطبيع" بين إسرائيل والعالمين العربي والإسلامي أكثر صعوبة وتعقيداً.
تحضر إسرائيل بقوة في معظم مدن الضفة الغربية وبلداتها، من دون الحاجة إلى سيناريو إعادة احتلالها (كما حصل في انتفاضة الأقصى الثانية)، وهي، وإن واجهت مصاعب ومقاومة شرسة أحياناً في اقتحام المدن ومراكز المخيمات، إلا أنها ما زالت قادرة على الوصول إلى مختلف المناطق المحتلة، الأمر الذي سيفقد أي محاولة إسرائيلية للتصعيد في هذا المسار قدرتها على حرف أنظار الخصوم المحليين عن معاركهم المحتدمة ضده وضد حكومته وائتلافه.
المسألة الفلسطينية عموماً، والوضع في الضفة الغربية خصوصاً، لا يحظيان بمكانة مهمة في السجال الإسرائيلي الداخلي، والمعارضة التي تخرج بمئات الألوف إلى الشوارع ضد "الإصلاح القضائي" لا تنبس ببنت شفة حيال ما يجري في الضفة من جرائم واعتداءات وعدوان، ويبدو أنها موضع ترحيب من مختلف ألوان الطيف الإسرائيلي، ولا فرق بين فريق وآخر حيالها سوى بطرائق التعبير ونبرة الخطاب، لا أكثر ولا أقل.
أما الجبهة اللبنانية، وخصوصاً التصعيد مع حزب الله، فقد بدا واضحاً بعد "عملية مجدو" أن تل أبيب تحاذر في توجيه الاتهام رسمياً إليه بالمسؤولية عنها، رغم أن تسريباتها وتحليلات الإعلاميين المقربين منها تكاد تجزم بوجود أيادٍ للحزب في هذه العملية.
السبب في ذلك أن إسرائيل على يقين بأن عملاً يستهدف لبنان ومقاومته، أياً كان شكله وحجمه وحدوده، سيقابل برد فعل متناسب من الحزب. لا شكّ لدى إسرائيل في ذلك، كما تقول صحافتها ويؤكد إعلاميوها وسياسيوها، وهي تعرف أن "الاشتباك" مع الحزب لن يكون بأي حال نزهة قصيرة، وهي تحاذر الدخول في ما لا تُحمد عقباه.
ووفقاً للمصادر الإسرائيلية المختلفة، فإن تل أبيب اختارت سورية لتكون مسرحاً للرد على "عملية مجدو" إدراكاً منها بأن الاشتباك مع المقاومة في الأراضي السورية أمرٌ يمكن احتواؤه، وهو لا يدخل في باب "كسر الخطوط الحمراء المتبادلة".
إن معركة مفتوحة مع حزب الله في لبنان قد تفلح في إرجاء المواجهة الداخلية في إسرائيل بعض الوقت، بيد أنها قد تكون نهاية عهد نتنياهو وحكومته، وقد تتسبب بأضرار يصعب التعافي منها على مستوى الدولة والمجتمع، ولا سيما أن إسرائيل اليوم، بما فيها مؤسساتها العسكرية والأمنية، ليست في أحسن أحوالها، ناهيك بمكامن الضعف في "الجبهة الداخلية" التي ما انفك قادة إسرائيليون يحذرون من مخاطرها.
تبقى الجبهة الإيرانية بوصفها مجالاً محتملاً للتصعيد وتصدير الأزمات. وهنا، نفتح قوسين لنميّز بين شكلين ومستويين من التصعيد الإسرائيلي على هذه الجبهة: الأول إستراتيجي، يُعنى بتوجيه ضربات شاملة ومدمرة إلى برنامج إيران النووي، والآخر تكتيكي، يتعلق بعرقلة هذا المشروع وإبطاء بعض أنشطته بفعل "حرب الظلال" التي تشنها "دولة" الاحتلال ضد أهداف إيرانية.
يبدو المستوى الإستراتيجي متعذراً حد الاستحالة من دون ضوء أخضر أميركي، مشفوعاً بتورط واشنطن في تقديم كل أشكال الدعم والإسناد، ما لم نقل التورط مباشرة في تنفيذ العمليات الحربية.
هذا السيناريو مستبعد في ضوء جملة عوامل، منها أن واشنطن منخرطة حالياً في حربين كونيتين مع روسيا والصين، وخارجة مهزومة لتوّها من حربين إقليميتين في أفغانستان والعراق، وهي بالتأكيد لا تريد خسارة حرب ثالثة، وليست في وارد إشعال جبهة ثالثة.
المعلومات المتواترة من واشنطن تؤكد أنها ما زالت مستمرة بخيار "الدبلوماسية والعقوبات" في التعامل مع ملف إيران النووي، وأنها ليست بصدد القيام بعملية واسعة ضد إيران، ولا سيما أن عواقبها وعقابيلها ليست مضمونة على الإطلاق.
أما المستوى الثاني التكتيكي، فإسرائيل تمارسه منذ سنوات من دون جدوى، وعمليات الاغتيال والتفجيرات التي تستهدف أهدافاً إيرانية لا تتوقف، والحرب السيبرانية متواصلة، والضربات الجوية والصاروخية ضد أهداف إيرانية في سورية والعراق وفي عرض البحار متواصلة في ما يعرف بـ"حرب الظلال".
وليس مستبعداً، بل من المرجح، أن تواصل إسرائيل عمل "المزيد من الشيء ذاته" في الأيام المقبلة، لكن السؤال عن قدرة هذا النمط والمستوى من التصعيد على "تصدير أزمة الداخل إلى الخارج" يبقى مفتوحاً. ومهما بلغت حدة التصعيد الإسرائيلي في هذا المضمار، فإنه لن يكون كافياً لحرف الأنظار أو إطفاء شرارات الأزمة الداخلية.
يعني ذلك من ضمن ما يعنيه أن ثمة حدوداً وقيوداً للتصعيد تجد إسرائيل نفسها عاجزة عن تخطيها بفعل الخشية من تداعيات غير محتملة، الأمر الذي يُبقيها أمام سيناريو بلا عواقب جدية حتى الآن: العربدة في الأجواء السورية واستباحتها، وهو أمر تمارسه منذ سنوات، وبالقليل الأقل من الخسائر، ذلك أن معظم هذه الضربات صاروخية، فيما الطائرات الحربية تضرب من خارج الأجواء السورية، وردود الفعل العربية والدولية على العربدة والعدوان المتكرر تكاد تكون معدومة... لا تكاليف سياسية أو عسكرية أو بشرية تتحملها "إسرائيل" جراء استباحتها الأجواء السورية وضربها أهدافاً في طول البلاد وعرضها.
شهدت الأيام القليلة الفائتة تطوراً غير مسبوق في حجم الضربات الجوية والصاروخية ونوعيتها، وفي طبيعة أهدافها (وتحديداً مطاري دمشق وحلب؛ بوابتي عبور الإغاثة والمساعدات الإنسانية بعد كارثة الزلزال)، الأمر الذي يؤكد حقيقة أن إسرائيل لا تخشى العقاب، وتعمد إلى إساءة الأدب.
لكن يبدو أن هذه الحال لن تستمر على المنوال ذاته، فتوجيه طائرة مسيّرة من الحدود السورية إلى الأجواء الفلسطينية يحمل في طياته رسالة ذات مغزى تنسجم مع اختلاف نبرة البيانات السورية الأخيرة التي حملت بدورها رسائل تشي بأن الصمت حيال الغطرسة الإسرائيلية ليس ممكناً، وقد لا يظل خياراً، ولكننا قد نكون بحاجة إلى مزيد من الوقت للتعرف إلى الكيفية التي تفكر فيها دمشق والحدود التي يمكن أن تصل إليها ردود أفعال سورية.