سواءٌ أكانت «حفلة» الصواريخ جدّية، أم نصف جدّية، أم لُعبة مُفتعلة، فإنها لم تُحقّق لبنيامين نتنياهو سوى بعض المكاسب المؤقّتة التي ستتحوّل إلى خسارات كبيرة.
وطالما أنّ الذين أطلقوا هذه الصواريخ كانوا من عداد قوى «المقاومة» أو من «الأشباح»، فإنّ تطوّر الأحداث باتجاه ما يرمي إليه نتنياهو يظلّ، وسيظلّ ضعيفاً ومفتوحاً على اتجاهات معاكسة، بما فيها انكشاف أهدافها كلُعبة صغيرة.
وطالما أنّ سَحب البساط من تحت أرجل المدافعين عن الأقصى الشريف فشل أو سيفشل، فإنّ خسارة نتنياهو تصبح مؤكّدة، وخسارة إسرائيل تصبح مضاعفة.
إذا عادت الصورة من جديد إلى رحاب المسجد، وإذا عادت بنفس الزخم [وهي ستعود حتماً] فسيتمّ بصورة حتمية، أيضاً، الحديث وبزخمٍ كبير هذه المرّة عن جدوى هذه الصواريخ، طالما أنّ معظم القائمين على إطلاقها «يتنافسون» على سرعة التبرؤ منها! ما يُفقد نتنياهو القدرة العملية على «الاستعانة» بها، أو توظيفها للتخفيف من ضغوط الأزمة الخانقة التي تحيط به من كل جانب.
إذا ما بدأنا بالطرف أو الأطراف التي تقف خلف هذه «الحفلة» السريعة من إطلاق الصواريخ، بعيداً عن مُفردات اللغة التشكيكية، واعتبرنا أن المسألة مجرّد اجتهاد فمن المؤكّد أن هؤلاء لم يُحسنوا هذا الاجتهاد، وليس لهم إلّا أجراً واحداً، وربّما أقلّ.
وإذا كان القائمون على إطلاقها قد أرادوا التعبير عن دعمهم لـ»الأقصى» بوساطة إطلاقها، فليس من مصلحة «الأقصى» أن تبدو الصورة وكأنّها صواريخ مجهولة الهويّة، وليس لديها «عنوان»، وليست هذه هي الوسيلة التي تدعم المدافعين عن الأقصى، خصوصاً وأنها ــ أي الصواريخ ــ تبدو فاقدة لأيّ شرعية في بعض النواحي، أو هي فاقدة للجدّية من نواحٍ أخرى لأنها صواريخ «على الماشي».
باختصار، فإنّ إطلاق الصواريخ هنا وبهذه الوضعية، وبهذه الخلفية، وافتقادها إلى العنوان والهويّة، وإلى المصداقية والجدّية، يحوّل الأمور برمّتها إلى شكل «كاريكاتوري» لا يحقق لأصحابه شيئاً جدّياً واحداً، ولا يضيف إلى ميزان حسناتهم مثقال ذرّةٍ في هذا المجال بالذات.
أقصد أن الجهة التي أطلقت الصواريخ من جنوب لبنان، ومن منطقة القنيطرة السورية هي جهة فلسطينية، ولكنها محسوبة على إيران بكلّ تأكيد، وربما يكون «الهدف» هو «الردّ» على مقتل اثنين من قادة «الحرس الثوري»، أو المستشارين العسكريين الإيرانيين العاملين على الأرض السورية، وأن الأمر يتعلق «باستخدام» الحالة في القدس أكثر مما هو حالة دعم للأقصى، وذلك لأن الخطر على الأقصى أكبر من «الحفلة».
حاول نتنياهو أن يستثمر أقصى ما يمكن استثماره، لكن «الحصاد» كان بائساً وأقلّ من التوقّعات.
إذا انتقلت للطرف الإسرائيلي، وإلى حكومة التطرُّف والعنصرية والفاشية فإنّ مشكلتها أو أزمتها أكبر وأعمق من أن تجد مخرجاً سريعاً لها من خلال ما جرى في الأيام الثلاثة الماضية.
فمن ناحية لا تستطيع هذه الحكومة التراجع عن كلّ ما «تحقّق» لإسرائيل من «مكاسب» بالاستباحة اليومية لساحات المسجد، وعمّا وصلت إليه «الوقائع» من فرض بعض أشكال التقسيم الزماني والمكاني، وبات الأمر الوحيد المتبقّي من وجهة نظر هذه الحكومة ليس إغلاق المسجد أمام المصلّين كإجراء روتيني أو عادي إذا «تطلّب» الأمر ذلك، وإنّما «فرض» حق اليهود بممارسة كل الطقوس الدينية اليهودية كاملةً وغير منقوصةٍ في ساحات المسجد، بما في ذلك «القرابين» وغيرها من الطقوس التي تكرّس «الحقّ الديني» اليهودي في المسجد.
والأمر بالنسبة للقوى الفاشية أبعد من ذلك وصولاً إلى إنهاء أيّ دورٍ للأوقاف الفلسطينية والأردنية، وتحويل دورهما إلى «ديكور» شكلي حول «حرية» العبادة في القدس.
باختصار، المعركة الآن هي حول تكريس «حقّ» اليهود في المسجد، وما حوله، وتصفية المفهوم الذي يكرّس المسجد كونه بقعة مقدّسة للمسلمين حصرياً، حتى يتمّ شرعنة تقسيمه زمانياً ومكانياً على طريق تحويل حق المسلمين فيه إلى مجرّد إذن وترخيص إسرائيلي بالصلاة فيه.
لن تقبل أحزاب «اليمين» الفاشي والقومي والديني البقاء دقيقة واحدة في حكومة نتنياهو إذا تراجع الأخير عن كلّ ما بات هذا «اليمين» يراه «حقوقاً» ثابتة ومكرّسة.
الهجمات التي قامت بها حكومة نتنياهو على المسجد الأقصى قبل حفلة الصواريخ الأخيرة لن تتراجع إلّا في بعض مظاهرها الفاقعة، ولكنها ستتحوّل إلى «وقائع» مكرّسة من الناحية العملية، ما سيعمّق أزمة نتنياهو داخلياً وإقليمياً ودولياً على حدّ سواء.
وليس المقصود هنا أبداً أن «المعارضة» الداخلية الإسرائيلية، أو الاعتراض العربي والإقليمي والدولي سيتحوّل إلى سيفٍ مُسلّط على عُنق نتنياهو، ولكن المقصود هو أن تلك «المعارضة»، وهذا الاعتراض سيصعّب عليه التراجع حتى لو رغب بذلك، لأن السيف المُسلّط على رقبته هو سيف «اليمين» الفاشي الذي سيرى في أزمة نتنياهو الجديدة هنا فرصته الكاملة لفرض وتكريس ما يصبو إليه.
راهن نتنياهو قليلاً أن تكون قضية أو حفلة الصواريخ عاملاً مساعداً على «فكّ» العزلة عن حكومته، حتى ولو بصورةٍ مؤقّتة، إلّا أن الأمر كلّه تبخّر الآن، وتراجع الوهم حول إمكانية حرف مسار الأحداث، وعادت القضية إلى المربّع الأوّل، وتحوّلت المعركة حول «الأقصى» وعادت إلى كونها المعركة الرئيسة والكبرى، والعنوان الأهمّ في الصراع المحتدم على طول فلسطين وعرضها، كلّ فلسطين، وليس الخاضع للاحتلال العسكري المباشر منها.
الذي لا يرغب نتنياهو الإقرار به هو أن انتظار «الفَرَج» من الخارج ومراهنته على «اليمين» الدولي، هو بمثابة مقتل له ولحكومته على حدّ سواء.
الإدارة الحالية في الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلفها أوروبا الغربية، و»الغرب» عموماً لا يرغبون ببقاء نتنياهو، وهم يدعمون «المعارضة» الاحتجاجية ــ كما أرى ــ فعلاً، وليس توقُّعاً، لأن بقاء هذه الحكومة يُنذر بأخطارٍ كبيرة عليهم قبل أن يُنذر على المنطقة والإقليم.
«الغرب» يقرأ جيّداً، وقد قرأ فعلاً الأزمة الإسرائيلية من زاوية مصالحه الإستراتيجية، وليس من زاوية المصالح الحزبية فيها.
«الغرب» يعي بعمق أنّ «الانقلاب القضائي نفسه» شديد الصلة بالصراع مع الشعب الفلسطيني، وبحسم هذا الصراع كما يراه، وكما يخطّط له «اليمين» الفاشي في إسرائيل، ويرى أن الحلول الترقيعية حول معركة هذا الانقلاب لن تتمكّن على المدى المتوسّط، أو البعيد من إيجاد مخرجٍ حقيقي من الأزمة، بل وقد لا يكون متاحاً مثل هذا المخرج على المدى المباشر أصلاً، ما يعني أنّ إسرائيل ستكون أمام أخطار وجودية حقيقية، وليس متخيّلة أو موهومة، و»الغرب» في هذه الحالة يكون قد فقد أكبر قاعدة، وأقوى مرتكز في واحدة من أخطر وأكبر مناطق العالم أهمية له.
لا يمكن أن يقف «الغرب» متفرّجاً أو حياديّاً حيال أخطارٍ كهذه على مصالحه الإستراتيجية، وهو لن يغامر بالجلوس على مقاعد المشاهدة لانتقال «الكرة» من فريقٍ إلى آخر، وأغلب الظنّ أنه قد حسم خياراته لصالح «المعارضة» الاحتجاجية، ولم يتبّق سوى انتظار الفرصة المناسبة.
لهذا فإنّ كل المكاسب المؤقّتة لنتنياهو وفريقه مكاسب صغيرة، وهي محاولات يائسة في الواقع لأن الخسارات الناتجة عن مناوراته في محيط هذه المكاسب الصغيرة، أو المتناهية الصغر، ستكلفه وجود أو بقاء حكومته، كما ستكلفه البقاء في الحلبة السياسية الإسرائيلية.
وحتى لو أن «اليمين» الفاشي قد حاول أن «يتفهّم» عمق الأزمة، وحقيقة الأخطار التي تهدّد الائتلاف الحاكم، وصعوبة رجوع هذه الحكومة إذا جرت انتخابات جديدة، وأعطت لنتنياهو بعض الدعم المؤقّت، وأبدت بعض المرونة حيال بعض القضايا الشكلية فيما يتعلق بالقدس والأقصى، فإنّ «المعارضة» الاحتجاجية لن تقبل بأقلّ من «إلغاء» الانقلاب القضائي، وحينها ستدخل الولايات المتحدة الأميركية على الخط مباشرةً، ولا أستبعد مطلقاً أن تعيد سيناريو محاكمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لرئيس وزراء الاحتلال، خصوصاً أنّ نتنياهو بات يُعلّق كلّ آماله على نجاح الحزب الجمهوري، ونجاح ترامب كمخرجٍ إستراتيجي من الأزمة الإسرائيلية، أو كمراهنة إستراتيجية على الخروج منها.
أزعم وأكاد أجزم أن «الغرب» يعمل ومنذ الآن، وعلى مدار الساعة، للتخلّص من نتنياهو، مع أن هذا التوجّه لن يحلّ الأزمة الإسرائيلية مُطلَقاً.